مسألة الإيمان دراسة تأصيلية

الكتاب: مسألة الإيمان دراسة تأصيلية
المؤلف: علي بن عبد العزيز بن علي الشبل
تقريظ:
الشيخ د. صالح بن فوزان الفوزان
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان
[الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع]

مسألة الإيمان
دراسة تأصيلية

تأليف
علي بن عبد العزيز بن علي الشبل
عفا الله عنه وعن والديه ومشايخه والمسلمين

تقريظ
أصحاب الفضيلة
الشيخ د. صالح بن فوزان الفوزان
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان

(1/1)


تقريظ بقلم
فضيلة الشيخ الدكتور
صالح بن فوزان الفوزان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: فقد اطلعت على الكتاب الذي ألفه الشيخ علي بن عبد العزيز الشبل في موضوع حقيقة الإيمان، وأنه قول وعمل واعتقاد كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافاً للمرجئة الذين أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، فسهَّلوا للناس طريق المعاصي والمخالفات، وخالفوا كتاب الله وسنة رسوله، وما عليه أهل السنة والجماعة، ولهذه الفرقة الضالة من يروج مذهبها اليوم من المتعالمين. فكان لا بد من بيان ضلالتهم لئلا يغتر بهم من يخفى عليه أمرهم، ويحسن الظن بهم.

فوجدته فيما كتبه الشيخ علي وفقه الله، وافياً في الموضوع، فجزاه الله خيراً ونفع بما كتب وبين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،

كتبه

صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان

في 22/2/1422هـ

(1/2)


تقريظ بقلم
فضيلة الشيخ
عبد الله بن سليمان المنيع

الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله محمد وعلى آله وأصحابه، أما بعد:فقد منَّ الله عليَّ بتكرم أخي فضيلة الشيخ علي بن عبد العزيز الشبل بإطلاعي على مسودة الكتاب القيم ((مسألة الإيمان)) واستعراض آراء علماء العقيدة، وما حصل لمجموعة من الفرق المنتسبة للإسلام من خلل وزلل وانحراف في الاعتقاد في مسألة الإيمان، مع اختلاف بعضهم عن بعض في مقتضيات الإيمان، وأن القول الحق، والاعتقاد المتفق مع أصول الاعتقاد ودلائله وكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الإيمان إقرار باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

وقد استعرض فضيلة الشيخ علي أقوال هذه الفرق المنحرفة في الاعتقاد وأصل الإيمان، وردَّ عليهم رداً شافياً سنده في الرد كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تمسكاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنة رسوله)) .

واستدلاله في رده على ما ذكره المحققون من علماء السلف قديماً وحديثاً ومنه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وابن رجب - رحمهم الله تعالى - وغيرهم من أهل العلم وسلامة الاعتقاد.
فجزى الله المؤلف خير جزاء وأتمه، وجعل هذا الكتاب من الحسنات المثقلة للميزان، وعلماً ينتفع به مؤلفه في حياته الدنيا بالدعاء له للانتفاع به، وفي الآخرة مما يتصل به عمله بعد انقطاعه، أطال الله عمره في طاعته وخدمة دينه.
قال هذا وكتبه
عضو هيئة كبار العلماء
عبد الله بن سليمان المنيع

والله المستعان
في 13/3/1422هـ

(1/3)


تقريظ بقلم
فضيلة الشيخ
عبد الله بن محمد الغنيمان

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين، اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد:
فإن قضية الإيمان من أكبر القضايا وأعظمها بل هي أعظمها إذ عليها مدار السعادة والشقاء، فمن هدي إليها، وشرح صدره بها، ورزق فهمها والعمل بها فقد سعد في الدنيا والآخرة، ومن حرمها حرم الخير كله؛ فإنه يتمتع في هذه الحياة قليلاً ثم مصيره إلى عذاب الله الذي لا ينقطع.
وهذه الرسالة للشيخ علي بن عبد العزيز الشبل وفقنا الله وإياه للخير والعمل به - فيها إيضاح مسألة الإيمان، وبيان مذهب أهل السنة فيها، وقد قرأتها فألفيتها مفيدة وجديرة بالإشاعة ليعم الانتفاع بها.
أسأل الله - تعالى - لنا ولجامعها التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

قاله
عبد الله بن محمد الغنيمان

(1/4)


المقدمة

الحمد لله نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:
فإن مباحث العقيدة من أهم ما يعتني به المؤمن دراسة وتفهماً، علماً وعملاً؛ لأن العقيدة أهم المهمات وهي أساس الديانة، وقاعدة الملة المتينة، لذا اهتمت بها كتب الله المنزلة، ورسله المرسلة إلى عباده. وعلى العقيدة شُيدت مباني الشريعة، وقامت سوق الجنة والنار.
ولهذا وغيره صار علم العقيدة والإيمان والتوحيد أشرف العلوم وأزكاها، وأعظمها أثراً. وأضحت مسائل العقيدة المبحوثة لها هذه الأهمية، وتداعى لها ذلك الشرف، وتأكد لها عظيم القدر.
هذا وإن من جليل مباحث العقيدة المحتفى بها عند أهل السنة والجماعة- السالكين جادة منهج السلف الصالح من لدن النبي صلى الله عليه وسلم فأصحابه الكرام رضي الله عنهم، فتابعيهم، ثم من تبعهم بإحسان وعلم وهدى - مباحثُ الإيمان، المناطة بأحكام أهله دنيا وأخرى، والمُعبَّر عنها عند العلماء بمسائل الأسماء والأحكام.
وهذه المسألة بما اشتملت عليه من تضاعيف المباحث من أجل مسائل العقيدة، وأول أصول العقيدة افتراقاً في بابها قديماً وحديثاً؛ ولذا اعتنى بها العلماء في تصانيفهم ولا سيما من أئمة السنة، فإن علماء السلف الصالح أول ما قذعوا به الجهمية من ضلالاتهم هذه المسألة: مسألة الإيمان، يدركه من طالع كتب السنة والأثر!
ولما رأيت توافر الدواعي - في زمننا- إلى توضيح هذا الموضوع وتجلية مذهب السلف الصالح: أهل السنة فيه، رأيت المشاركة بهذه الورقيات التأصيلية للمسألة: مسألة الإيمان (1) .
موصياً - ومؤكداً في الوصية - بلزوم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والتفقه بفقه السلف الصالح، ورد الإشكال إلى أهل العلم المعتبرين ليحلوه ويوضِّحوه ويبينوه كما في آيتي النحل والأنبياء: {فَسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] .
__________
(1) والواقع أن هذا البحث هو جزء من دراسة أطروحتي العالية: ((ابن الحنبلي وكتابه الرسالة الواضحة في الرد على الأشاعرة)) . مع زيادات عليه. ومحذراً شباب السنة وفتية الإسلام من ضد ذلك، من سلوك بنيات الطريق، ومزالق الفتن، ومسالك التعالم والتجهيل، والانطراح بين يدي الله والإلحاح عليه في الحذر من ذلك كله، والثبات على دينه، والاعتصام بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم وصالح سلف المؤمنين، وفقنا الله لذلك آمين.
هذا وقد سميت الموضوع: ((مسألة الإيمان دراسة تأصيلية)) .

(1/5)


((مسألة الإيمان دراسة تأصيلية))
وقد اشتمل على عدة مطالب رئيسة هي:
1.المطلب الأول: مقدمة بأهمية المسألة.
2.المطلب الثاني ... : مسألة تعريف الإيمان ومسماه.
3.المطلب الثالث: الأصل الجامع للنزاع في المسألة.
4.المطلب الرابع: بيان فساد أقوال الطوائف إجمالاً.
5.المطلب الخامس: معنى الإيمان لغة.
6.المطلب السادس: العلاقة بين الإسلام والإيمان.
7.المطلب السابع: زيادة الإيمان ونقصانه، والأدلة عليه، وأسباب زيادته ونقصانه.
8.المطلب الثامن: المخالفون في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه.
9.المطلب التاسع: تحقيق المروي عن الإمام مالك في نقصان الإيمان.
10.المطلب العاشر: مسألة الإيمان المطلق، ومطلق الإيمان.
11.المطلب الحادي عشر: حقيقة الخلاف مع مرجئة الفقهاء.
12.المطلب الثاني عشر ... : الكفر عند أهل السنة والجماعة ومخالفيهم ويشمل: ...
... أ- مقدمة في أهمية الموضوع.
... ب- الكفر ومعناه.
... ج- قواعد مهمة في معرفة أنواع الكفر.

ولما كان موضوع البحث بهذه الأهمية، عرضته على جمع من كبار العلماء ذوي الخبرة والاختصاص:

1-سماحة مفتي عام المملكة: الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ.
2- فضيلة الشيخ: د. صالح بن فوزان الفوزان.
3- فضيلة الشيخ: عبد الرحمن الناصر البراك.
4- فضيلة الشيخ: عبد الله بن سليمان بن منيع.
5- فضيلة الشيخ: عبد الله بن محمد الغنيمان. وغيرهم.

جزى الله الجميع من نعمائه، وعوالي جنانه، وحرمنا وإياهم سخطه وعذابه ونيرانه.
... ثم إني قد رضيت من مهرها بدعوة خاصة بظهر الغيب إن وافقت قبولاً واستحساناً، أو صادفت كفؤاً كريماً، أو تدبرها عاقل حصيف.
فالحق من توفيق ربي وهدايته، ولقارئه غُنمه، وعلى مُعلقه غُرمه، والله يعامله ويجازيه بالحسنى وبعد: فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَاناَ لِهَذاَ وَماَ كُنا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَاناَ اللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّناَ بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43] .
وأسأله سبحانه أن يعلي بها الدرجات، ويمحو بها السيئات، ويبدلها لنا حسنات، ويحقق بها الزلفى لديه بالمسرات. ويلفح علينا بها النفحات، ويغفر لنا ولمشايخنا ووالدينا وإخواننا المسلمين والمسلمات، برحمة وإحسان مولانا مبدع البريات. {إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِماَ يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100] .
والله أعلم. اللهم صلِّ على محمد وآله وصحبه وسلّم تسليماً.

... ... ... ... ... ... كتبه الفقير إلى مولاه الأجل
... ... ... ... ... ... علي بن عبد العزيز بن علي الشبل
... ... ... ... ... الرياض 11415- ص. ب: 63128
... ... ... ... ... ... ... فاكس 2417438

(1/6)


أهمية مسألة الإيمان

... مسألة الإيمان من مسائل العقيدة الجليلة التي وقع الاختلاف فيها، والافتراق عليها قديماً في المسلمين؛ بل لا يبتعد إذا قيل إنها أول مسائل الاختلاف في هذه الأمة التي وقع النزاع فيها بين طوائفها، فخالف فيها المبتدعة الأمة الإسلامية!
ومن ثم ترتب عليها اختلافات أُخر في مسائل وثيقة الصلة بمسألة الإيمان.
ومسائل الإيمان يُعبِّر عنها العلماء بمسألة ((الأسماء والأحكام)) ، بمعنى: اسم العبد في الدنيا هو هل مؤمن أو كافر أو ناقص الإيمان..؟ وحكمه في الآخرة أمن أهل الجنة هو أم من أهل النار، أم ممن يدخل النار ثم يخرج منها ويُخلد في الجنة؟
ولأهمية هذه المسائل ضمَّنها أهل السنة والجماعة في مباحث العقيدة الكبار (1) وقال الحافظ ابن رجب مبيناً أهمية هذه المسألة: ((وهذه المسائل، أعني مسائل الإسلام والإيمان، والكفر والنفاق مسائل عظيمة جداً)) .
فإن الله عز وجل علَّق بهذه الأسماء السعادة والشقاوة، واستحقاق الجنة والنار.
والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة، وهو خلاف الخوارج للصحابة حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكُلية، وأدخلوهم في دائرة الكفر، وعاملوهم معاملة الكفار، واستحَّلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم، ثم حدث بعدهم خلاف المعتزلة وقولهم بالمنزلة بين المنزلتين.
ثم حدث خلاف المرجئة وقولهم: إن الفاسق مؤمن كامل الإيمان.
وقد صنَّف العلماء قديماً وحديثاً في هذه المسائل تصانيف متعددة، وممن صنَّف في الإيمان من أئمة السلف: الإمام أحمد، وأبو عبيد القاسم بن سلاَّم، وأبو بكر أبي شيبة، ومحمد بن أسلم الطوسي، - رحمهم الله تعالى- وكثرت فيه التصانيف بعدهم من جميع الطوائف)) .اهـ. (2) .
وهكذا شأن الابتداع في الدين، فما يبتدع أحد بدعة- ولاسيما في أصول الدين وباب السنة-، إلا اتسعت اتساعهً كبيراً شبراً فباعاً فميلاً.. وحسبك أن تعلم ما يقابل هذا الاتساع من خفاء السنن واندراسها.
ولا يبتدع مبتدع من أهل الأهواء بدعة في هذا الباب إلا ويأتي عقبه من يبتدع بدعة تضاد بدعته وتقابلها، حتى يكون الحق عند من يجده وسطاً بن البدعتين، وهذا تلاحظه في:
__________
(1) بل قدَّمها الإمام البخاري في أول صحيحه من خلال كتاب الإيمان منه.
وقدَّمها الإمام أحمد في كتاب السنة، كما في كتاب السنة للخلال روايته عنه، فقد أضحت مسائل الإيمان والرد على المرجئة أول ما انتقده أهل السنة على الجهمية من ضلالاتهم، لاسيما هم المرجئة المحضة!
(2) من جامع العلوم والحكم-شرح الحديث الثاني-حديث جبريل المشهور (300) .

(1/7)


-بدعة الخوارج الوعيدية ومن تبعهم في مسائل الإيمان، ومقابلة المرجئة بطوائفها لهم ببدعتهم، والحق وسط بينهما!
-وفي باب الصفات ببدعة الممثلة المشبهة، ومقابلة المعطلة لهم.
-وفي باب القدر والإرادة بين بدعة القدرية نفاة القدر، وماقابلها من بدعة الجبرية الغلاة في إثباته.
-وفي باب الصحابة والإمامة بين بدعة الخوارج النواصب وما قابلهم من بدعة الروافض.
والحق في كل هو الوسط بين تلك البدع!
ومسائل الإيمان من ذلك، وقد اندرج تحتها عدة مسائل ومباحث بعضها يكون غرة عن بعض.
وأستعين الله بعرض بعض من مسائله المهمة، فبالله التوفيق، ومنه العون والتسديد، وهو حسبي ونعم الوكيل.

مسألة تعريف الإيمان ومسماه:
وهذه المسألة هي الأساس الذي ينبني عليه الخلاف وثمراته في مسائل الإيمان.
واختُلف فيما يقع عليه اسم الإيمان، وما يُراد به اختلافاً كثيراً (1) ، أعرض هاهنا لمجمل الأقوال في المسألة التي لها شهرة، وينبني عليها فهم أهلها واعتقادهم بالمراد بالإيمان.
1ـ قول عامة أهل السنة وأهل الحديث:
... أن الإيمان إقرار باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان يزيد بطاعة الرحمن، وينقص بطاعة الشيطان.
2ـ قول الوعيدية من الخوارج والمعتزلة:
... أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، والعمل شرط في الإيمان يوجد بوجوده، ويعدم بعدمه. فهم وافقوا أهل السنة في مسمى الإيمان لفظاً، وخالفوهم في حقيقته ومعناه، فجعلوا الإيمان يزول بزوال العمل مطلقاً من غير تفصيل في نوع العمل؟!
3ـ قول المرجئة، وهم في هذه المسألة طوائف كثيرة أشهرهم:
__________
(1) ينظر في هذه الأقوال المقالات للأشعري 1/125، 149، 204، 223، 329، وتبصرة الأدلة لأبي المعين النسفي 2/789 وما بعدها، والفرقان بين الحق والباطل ضمن المجموع 13/47-51، والإيمان الكبير لابن تيمية 72، والإيمان الأوسط له 509-511،543-550، وشرح الطحاوية 459 وما بعدها.

(1/8)


أـ المرجئة المحضة وهم الجهمية ومن وافقهم من القدرية وغيرهم: والإيمان عندهم هو المعرفة بالله، والكفر الجهل به، وفساد هذا القول بيِّن ظاهر جداً.
ب ـ قول جمهور الأشاعرة:
... ... بأن لإيمان هو تصديق القلب فقط.
... ... وربما جنح متكلموهم فيه إلى قول الجهمية بأنه معرفة القلب.
ج- المرجئة الكرَّامية وهو قول ابن كلاب والرقاشي؛ بأن الإيمان تصديق القلب، أما الإقرار باللسان فحسب. ومن لوازمه الباطلة اعتبار المنافقين مؤمنين؟!
د- قول الماتريدية ورواية عن أبي حنيفة: بأن الإيمان تصديق القلب، أما الإقرار باللسان فركن زائد فيه ليس بأصلي، حيث يسقط بالإكراه ونحوه.
هـ-قول مرجئة الفقهاء، هو قول الشمرية والنجارية والغيلانية من طوائف المرجئة، بأن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان.
الأصل الجامع للنزاع في المسألة:
هذا وقد استقرأ الشيخ أبو العباس ابن تيمية هذا الأصل الجامع للنزاع في الإيمان من خلال سبره لأقوال الطوائف في الإيمان وتمحيصه لحقائقها، وهو المطلع على أقوال أهل المقالات اطلاعاً لم يُعرف له نظير.
وهذه الأصول هي في الواقع قواعد قعَّدها –رحمه الله- في مواقف تلك الطوائف من دلائل الوحي في مسألة الإيمان، وأجوبتهم عليها.
وهي:
* الأصل الأول:
قال رحمه الله في الإيمان الأوسط: ((وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم أنهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً، إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه.

(1/9)


فلم يقولوا بذهاب بعض وبقاء بعض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان)) .اهـ (1) .
* الأصل الثاني:
ما ضمَّنه شرحه للأصفهانية حيث قال:
((وأصل هؤلاء أنهم ظنوا أن الشخص الواحد لا يكون مُستحقاً للثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والحمد والذم. بل إما لهذا وإما لهذا، فأحبطوا جميع حسناته بالكبيرة التي فعلها..)) اهـ (2) .
وهذا هو معنى أن يجتمع في العبد: إيمان وكفر، وإسلام ونفاق، وسنة وبدعة، وطاعة ومعصية.. وهو الحق الذي دلت عليه نصوص الإيمان من الكتاب والسنة.
* الأصل الثالث:
ما ذكره العلماء- رحمهم الله- من طريقة أهل البدع في تلقي النصوص والشريفة ((الوحي)) سواء كانوا من الوعيدية من الخوارج والمعتزلة، أو من المرجئة على تنوع مراتبهم وأصنافهم، فهم لا يجمعون بين نصوص الوعد والوعيد؛ بل إنهم – في استدلالهم، ينفردون فيهما بما يؤيد مذاهبهم.
أ-فالوعيدية يستدلون بنصوص الوعيد، ويهملون نصوص الوعد، أو لا يجمعونها مع نصوص الوعيد في التلقي والاستدلال.
ب-وكذلك المرجئة يعوّلون على نصوص الوعد، دون اعتبار للنصوص الواردة في الوعيد، وجمعها في التلقي والاستدلال مع نصوص الوعد. فكلاهما آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض.
أما أهل السنة والجماعة فآمنوا بالكتاب كله، وعولَّوا على النصوص جميعها، فنظروا إلى نصوص الوعيد مع نصوص الوعد، فلم يضطربوا ولم يفرقوا بين المتماثلات وإنما كانوا الأمة الوسط، وأسعد الفريقين بالمذهب الحق.
* الأصل الرابع:
__________
(1) انظره في المجموع (7/510) ، وانظر ما بعده، وشرح حديث ((إنما الأعمال بالنيات)) في المجموع (18/270، 276) ، والإيمان الكبير (209-211) ، والفرقان بين الحق والباطل في المجموع 13/48-50، وشرح الأصفهانية (143-144) ، والحديث مخرج في الصحيحين.
(2) في شرح الأصفهانية (137-138) ، وانظر الفرقان بين الحق والباطل (13-48) .

(1/10)


أن الإيمان وكذا الكفر، كل منهما خصالٌ وشعبٌ عديدة، ومراتب متعددة، فمن الإيمان شعب إذا زالت زال الإيمان كله كالصدق في الحديث والحياء. وكذلك الكفر منه شعب إذا وقعت وقع الكفر الأكبر كالاستهزاء والسب لله ولدينه ولرسوله، ومنه شعب إذا وقعت لم يقع الكفر الأكبر المخرج عن الملة، كسب المسلم وقتاله والنياحة وغير ذلك، وإنما يكون مقترفها واقعاً في الكفر الأصغر، وهو الكفر العملي، وهو لا يخرج من الملة (1) .

* * *

بيان فساد أقوال الطوائف إجمالاً: ...
وهي الأقوال التي خالفت قول عامة أهل الحديث، أهل السنة والجماعة، إذ التفصيل ليس هذا مقامه، ولا لمثلي بيانه. لأنه يعتمد على عرض شبه كلٍ على حده، وتناولها بالبيان والجواب، وقد أفلح فيه الشيخ ابن تيمية في كتابيه الإيمان الكبير والأوسط، بما أظنه لو تأمله مريد الحق بعمدته لاكتفى به!
ونقد الأقوال إجمالاً يسلمني من مناهج المتكلمين في عرضهم المجرد لمقالات الطوائف دون تعقيب أو توضيح للصواب من ضده.
فأما قول الوعيدية: فقد خالف إجماع الصحابة، وخالف النصوص في الوحيين الشريفين؛ التي دلت على نفع الشفاعة لأصحاب الكبائر وإخراج الموحدين من النار، وعدم خلودهم فيها.
أ- من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن عن أنس وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم.
__________
(1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/237) ، وتعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/516-520) ، وكتاب الصلاة لابن القيم (54-61) ، والرسائل المفيدة للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (27/29) ، وأعلام السنة المنشورة للحافظ الحكمي (73-75) وغيرها كثير!

(1/11)


ب- وقوله صلى الله عليه وسلم: يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)) متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه)) (1) .
ج- كيف وقد وعد سبحانه أن يغفر لمن شاء ممن لم يشرك به شيئاً كما في آيتي النساء {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ماَدُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُُ} [النساء:48] .
د-وأيضا الهدي النبوي في أصحاب المعاصي والكبائر الذين اقترفوها في عهده صلى الله عليه وسلم حيث لم يُنقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمرهم بتجديد إيمانهم أو الدخول في الدين من جديد، لو كانوا فارقوه كما يقول هؤلاء؟
هـ-أن هؤلاء محجوجون بأنه ليس أحد إلا ويخطئ أو يترك أمراً واجباً عليه من أوامر الدين ونواهيه، فيلزم على قولهم أنه لم يبق على الإيمان أحد.
لأن الإيمان بهذا القيد عندهم، وهو كل لا يتجزأ ليس إلا الإيمان المطلق؟ ومن يدعيه؟!
وقول المرجئة المحضة بيِّنُ الفسادِ، لما يلزمه من اللوازم القبيحة الباطلة:
أ- فإن أبا لهب وأبا جهل يعرفان ربهما ويوحِّدانه في الربوبية ولا يجهلانه ومع هذا فهما من أهل النار ولا شك.
وكذا عامة من لم يؤمن بالرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمجوس ونحوهم.
ب- أن أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم شهد بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً وكان عارفاً بربه، غير جاهل به، وهو كافر من أهل النار. وكذا أبوه عبد المطلب!
__________
(1) الأحاديث التي أغفل تخريجها هنا يعني أنه سيأتي تخريجها في التعليق على الكتاب المحقق ((الرسالة الواضحة)) بحول ربي وقوته.

(1/12)


ج- ومن لوازم قولهم الفاسد أن فرعون الجاحد لربوبية الله ظاهراً مؤمن كامل الإيمان لأنه عارف بالله في قلبه غير جاهل به، لقول أصدق القائلين سبحانه في آخر سورة الإسراء {قاَلََ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلاءِ إلاَّ رَبُّ السَمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَضَآئَّرَ وَإِنِّى لأَظَنُّكَ يَا فِرْعَوْنَ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] ، وقوله في أول سورة النمل {وَجَحَدُوا بِهاَ وَاسْتَيْقَنَتْها أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُواًّ فَانظُرْ كَيْفَ كاَنَ عَقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14] .
د- كما أن من أقبح لوازمه أن إبليس – أعاذنا الله منه- عند هؤلاء الجهمية مؤمن بالله، لأنه عارف له بقلبه غير جاهل به.
هـ- ومن لوازم قولهم أنه لا يكفر إلا الجاهل بربه، والحقيقة أنه لا أجهل من جهم وأضرابه بربهم حيث جعل لله الوجود المطلق، وعطَّله من جميع الصفات، ومن كان كذلك فلا يعرف إلا في الذهن فقط ولا وجود له في الخارج.
فمن أجهل بربه منه؟ سبحان الله وتعالى عما يصفون!
3- من لوازم بطلان مذهب الكرَّامية وأضرابهم بأن الإيمان هو النطق باللسان فقط!
أ- فإن المنافقين الذين كفَّرهم الله وكذَّبهم وجعلهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار. فقال تعالى في سورة النساء: {إِنَّ المْناَفِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا ً} [النساء:145] .
وفي أول سورة المنافقون: {إِذَا جَآءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 1-3] .

(1/13)


وكذا كل من أبطن في قلبه كفراً أو ناقضاً من نواقض الدين يكون عندهم مؤمناً مادام مُقراً بلسانه (1) .
ب- بل من جمع بين الكفر الاعتقادي والعملي أو النفاق الاعتقادي والعملي أو كلها يكون مؤمناً ما بقي مقراً بالإيمان باللسان!
ج- كما يلزم من ذلك- عندهم- أن من لا يستطيع النطق بلسانه لخرس أو عجز من خوف أو نحوه لا يكون مؤمناً ولو كان قلبه وعمله مطمئناً بالإيمان.
د- مناقضة هذا القول لقوله تعالى في آخر النحل: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ ولَهُمْ عَذاَبٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُم اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْياَ عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَفِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهًُمْ فِى الأَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [النحل: 106-109] .
4- قول جمهور الأشاعرة والماتريدين ونحوهم بأن الإيمان هو تصديق القلب) قول فاسد؛ لعدة اعتبارات منها:
__________
(1) فإن المرجئة سلَّموا أن المكذب في الباطن، المصدق في الظاهر مؤمن، لكنه مُعذب مخلد في النار، فنازعوا في اسمه لا في حكمه، ومن حكي عنهم أنهم جعلوهم من أهل الجنة فهو غلط عليهم، ومع هذا فتسميتهم له مؤمناً بدعة ابتدعوها مخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وهذه البدعة الشنعاء هي التي انفرد بها الكرامية دون سائر مقالاتهم. ذكره أبو العباس ابن تيمية في الإيمان الأوسط (7/475-476) .

(1/14)


أ-ما ورد تسميته إيمان من الأعمال والأقوال في النصوص الشرعية، كقوله تعالى في سورة السجدة: {إِنَّماَ يُؤْمِنُ بِئَايَتِناَ الَّذِّينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] .
وفي سورة الحجرات: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونُ الَّذِينَءَامَنُوا بِاللهِ وَرَسولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدَوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفًسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّدِقُونَ} [الحجرات:15] .
وقوله عن المؤمنين والمنافقين في التوبة: {لاَ يَسْتَئْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَئْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 44-45] .
ولما رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من غشنا فليس منا ومن حمل علينا السلاح فليس منا)) (1) .
فنصَّ على أن الإتيان بهذه الأعمال من الإيمان، ويُعلم أن تركها نقص في الإيمان ونفيٌّ لكماله الواجب، وصاحبها مستحق للبراءة منه (2) . مع وجود التصديق عندهما في قلبيهما.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان- باب قوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا)) (101) .
(2) ولذا فإن أضبط حدٍّ للكبيرة: أنها كل ذنب تُوعِّد عليه بالحدِّ في الدنيا والغضب أو اللعنة أو النار، أو البراءة من صاحبه، أو نفي الإيمان عنه. كما اختاره المحققون.

(1/15)


كما روى مسلم أيضاً في حديث أنواع المجاهدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) . فسمَّى النبي صلى الله عليه وسلم عمل القلب واللسان والجوارح إيماناً.
ب-يلزم عليه أن كل من لم ينطق بالشهادتين وهو مَصَّدق بقلبه بصدق الرسول وصحة دينه فهو مؤمن: كأبي طالب وأهل الكتاب من اليهود والنصارى … مع الاتفاق على كفرهم، وأنهم من أهل النار خالدين فيها.
ج-كما يلزم عليه من الباطل أن من صدَّق بقلبه بالله ورسله.. ثم لم يصلِّ، ولم يصم، ولم يحج، أو لم يزكِّ سواءً جاحداً أو متعمداً من غير جحود.. أنه المؤمن الكامل؛ لبقاء التصديق بقلبه.
د-وكذلك يلزم عليه أن من صدق بقلبه ثم أتى ناقضاً من نواقض الإسلام من السحر أو الشرك أو الاستهزاء بالدين.. أنه مؤمن، لبقاء أصل التصديق بالله في قلبه وهذه من أفسد اللوازم على قولهم.
5- أما قول مرجئة الفقهاء وأمثالهم فيستدل عليهم بفساد قولهم:
أ-بالأدلة الدالة على دخول الأعمال في الإيمان وهي كثيرة جداً مضى طرف منها.
ب-يلزم عليه أيضاَ أن من ترك فرضاً أو واجباً في الدين من الأعمال أنه لا يخرج عن الإيمان، كمن امتنع عن الزكاة عمداً، وهو ما أجمع الصحابة رضي الله عنهم على قتالهم، كما فعلوا مع المرتدين من العرب. وهم عند هؤلاء معهم التصديق والإقرار؟!
ج-كذلك من أقرَّ بلسانه وصدَّق بقلبه، لكن فعل ناقضاً كذبح لغير الله، أو سجود أو سحر، أنه مؤمن ليس بكافر؟
د-كذلك يُردُّ عليهم بالنصوص التي نفت الإيمان عمن ارتكب بعض الكبائر – وهي النصوص التي يستدل بها الوعيدية على خروج هؤلاء من الإيمان مثل:

(1/16)


قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينهب نهبة ذات شرف فيرفع الناس إليه فيها بأبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)) الحديث متفق عليه عن أبي هريرة (1) رضي الله عنه.
وأمثاله من نصوص نفي الإيمان ((الكامل)) عن بعض الأعمال من الكبائر كالغلول، وامتهان الجار، وإهانة الكبير..
... هـ-ثبوت التصديق للجوارح في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى، مدركٌ ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرِّجْل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويَصَّدق ذلك الفرج ويكذبه)) متفق عليه من حديث أبي هريرة وهذا لفظ مسلم (2) .

معنى الإيمان لغة:
ذهب كثير من المتكلمين وغيرهم؛ بل هو العُمدة عند جماهير المرجئة أن الإيمان في مفهوم اللغة العربية هو مجرد التصديق، استدلالاً بقوله تعالى في أول سورة يوسف: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّناَ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] .
* الصواب: أن معنى الإيمان في اللغة ليس مرادفاً للتصديق، بل التصديق وزيادة، من الإقرار والإذعان والتسليم ونحوها، لعدة اعتبارات.
أن معنى الآية في الحقيقة: ما أنت بمُقرٌّ لنا ولا تطمئن إلى قولنا ولا تثق به ولا تتأكد منه ولو كناَّ صادقين، فإنهم لو كانوا كذلك فصدقهم، لكنه لم يتأكد ولم يطمئن إلى قولهم. وهذه بلاغة في اللغة.
__________
(1) رواه البخاري موصولاً في كتاب المظالم – باب النهي بغير إذن صاحبه (2475) ، ومسلم في كتاب الإيمان (75) .
(2) رواه البخاري موصولاً في مواضع منها الاستئذان – باب زنا الجوارح دون الفرج (6343) ، ومسلم في كتاب القدر – باب قُدِّر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره (2675) .

(1/17)


أن لفظة الإيمان يقابلها الكفر، وهو ليس التكذيب فقط بل قدر زائد عليه، وإنما الكذب يقابل لفظة التصديق.
فلما كان الكفر في اللغة ليس مقصوراً على التكذيب، فكذلك ما يقابل الكفر وهو الإيمان لا يقابل التصديق، وليس مقصوراً عليه.
أن لفظ الإيمان لا يستعمل في جميع الأخبار المشاهدة وغيرها، وإنما يُستعمل في الأمور الغائبة مما يدخلها الريب والشك، فإذا أقر بها المستمع قيل آمن، بخلاف التصديق، فإنه يتناول الإخبار عن الغائب والشاهد، وإخوة يوسف أخبروا أباهم عن غائب غير مشاهد فصح أن الإيمان أخص من التصديق.
أن لفظ الإيمان تكرر في الكتاب والسنة كثيراًَ جداً، وهو أصل الدين الذي لا بد لكل مسلم من معرفته، فلابد أن يؤخذ معناه من جميع موارده التي ورد فيها في الوحيين لا من آية واحدة؛ الاحتمالُ مُتطرق إلى دلالتها!
أن الإيمان مخالف للتصديق في الاستعمال اللغوي وفي المعنى:
فأما اللغة فقد مضت في الجواب الثالث؛ فالاستعمال اللغوي للإيمان يُتعدى فيه إلى المُخبِر باللام وإلى المُخبَر عنه بالباء كقوله تعالى: {فَئَامِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ} .
أما المعنى: فإن الإيمان مأخوذ من الأمن وهو الطمأنينة، كما أن لفظ الإقرار مأخوذ من قرَّ يَقُر، وهو قريب من آمن يأمن.
وأما الصدق فهو عدم الكذب، ولا يلزم أن يوافقه طمأنينة إلا إذا كان المُخبر الصادق يُطمئن إلى خبره وحاله.

(1/18)


أن لفظ الإيمان يتعدى إلى غيره باللام دائماً نحو قوله تعالى: {فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] ، وقول فرعون في الشعراء: {ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ} [الشعراء:49} ، وقوله تعالى في يونس: {فَمَآءَامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} [يونس:83] ، وقوله: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47] . وقوله: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111] ، وآيات عديدة. أما لفظ التصديق وصدق ليصدق فإنه يتعدى بنفسه نحو: قوله تعالى في الصافات: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِناَّ كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَْ} [الصافات:105] . وفي أولها: {بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:37] . وفي سورة الزمر: {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر:74] فكلها بمقابل الكذب.
لو فرضنا أن معنى الإيمان لغة التصديق، لوجب أن لا يختص بالقلب فقط بل يكون تصديقاً باللسان، وتصديقاً بالجوارح كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق ((العينان تزنيان..)) الحديث.
كذلك لو قلنا: إن الإيمان أصله التصديق، فإنه تصديق مخصوص، كما أن الصلاة دعاء مخصوص، والصوم إمساك مخصوص يتبيَّن بالمعنى الشرعي حيث يكون للتصديق لوازم شرعية دخلت في مسماه (1) .

* * *

العلاقة بين الإسلام والإيمان:
أي هل الإسلام هو الإيمان؟ وهل الإيمان هو الإسلام؟ أو غيره. فهذا مما افترقت فيه الطوائف، كافتراقهم في مسمى الإيمان.
__________
(1) هذه الأوجه وغيرها بسطها أبو العباس ابن تيمية في مواضع من كتبه: في الإيمان الأوسط (7/529-536) ، وشرك الأصفهانية (142-143) ، والمجموع (10/269-276) ، والإيمان الكبير (126-134، 274-281) .

(1/19)


فقالت الوعيدية: إن الإسلام هو الإيمان والعكس صحيح (1) .
وقيل: الإسلام هو الكلمة أي كلمة التوحيد بالشهادتين. والإيمان هو العمل.
وهذان القولان لهما وجه صحيح يتضح عند التحقيق في معناهما.
وذهب الأشاعرة إلى أن الإيمان خصلة من خصال الإسلام، بأن كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا (2) .
وهذا القول فيه حق وباطل يتضح إن شاء الله.
والقول الصواب الذي عليه أهل التحقيق القول بالتفصيل، وهو إجمالاً: الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا. وإذا افترقا اجتمعا.
ومعناه:
* أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا في نص واحد من كتاب أو سنة فإن لكل واحد منهما معنىّ يختص به.
فالإسلام: الأعمال الظاهرة ومنها الشهادتان والصلاة..
والإيمان: الأعمال الباطنة من الاعتقادات كالتوكل والخوف والمحبة والرغبة والرهبة… وغيرها.
وقد دل على هذا دلائل كثيرة منها اكتفاءً واختصاراً:
قوله تعالي في سورة الحجرات: {قَالَتِ الأَعْرَابُءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قَولَوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِىقُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] فاجتمعا في نص واحد، ونفى عنهم الإيمان، وأثبت لهم الإسلام؛ فدل على افتراقهما أنهم مسلمون لكن لم يبلغوا أن يكونوا مؤمنين.
-وحديث جبريل عليه السلام المشهور وفيه ذَكَر الإسلامَ: بالأركان الخمسة، والإيمان: بالأصول الستة.
فإنهما اجتمعا في نص واحد، أجاب النبي صلى الله عليه وسلم لكلٍ بمعنى غير الآخر؛ فدل على افتراقهما.
__________
(1) كما في الإيمان الكبير (229،1346) ، وجامع العلوم لابن رجب (26) وما بعدها وهو لازم قولهم في مسمى الإيمان عند التأمل! وهو لازم قول الكرامية والمرجئة المحضة..!
(2) وهو قول أبي بكر الباقلاني نقله عنه بلفظه شيخ الإسلام في الإيمان الكبير (147) وما بعدها وقال قبله: ((فصل: قال الذين نصروا مذهب جهم في الإيمان من المتأخرين كالقاضي أبي بكر وهذا لفظه..)) اهـ، فذكره.

(1/20)


وأركان الإسلام الخمسة أعمال ظاهرة، وأصول الإيمان الستة أعمال باطنة، ولا بد منهما جميعاً.
-وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ((أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وسعد جالسٌ، فترك رجلاً هو أعجبهم إليَّ، فقلت: يا رسول الله مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً. فقال: ((أو مسلماً)) مالك عن فلان، ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي، فقلت: مثل ذلك وأجابني بمثله، ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي، وعاد صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((يا سعد إني لأُعطي الرجل، وغيره أحب إليَّ منه، خشية أن يكبه الله في النار)) متفق عليه واللفظ للبخاري (1) .
ووجه الدلالة كما في دلالة آية الحجرات، بتفريقه صلى الله عليه وسلم بين المؤمن والمسلم في نص واحد، مما يدل أن لكل منهما معنى يختص به.
-ويدل على هذا الفرق الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وغيره: ((ثنا بهز بن حكيم ثنا علي بن مسعدة ثنا قتادة عن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الإسلام علانية والإيمان في القلب)) ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات ثم يقول: ((التقوى ههنا، التقوى ههنا)) (2)
__________
(1) رواه البخاري موصولاً في كتاب الإيمان – باب: إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة.. (27) ، ومسلم في الإيمان أيضاً – باب تألف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه (150) .
(2) أخرجه في الإيمان أحمد في المسند (3/134-135) ، وأخرجه البزار وأبو يعلى قال في المجمع 1/52: ((رواه أحمد وأبو يعلى بتمامه والبزار باختصار ورجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن مسعدة وقد وثقه ابن حبان وأبوداود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين وضعفه آخرون)) اهـ.

وأخرجه ابن حبان في المجروحين (2/111) من طريق ابن مسعدة به، وكذا العقيلي في الضعفاء (2/250) ، وانظره في تفسير ابن كثير (7/352) (الشعب) ، والمطالب العالية (2861) ، والدر المنثور (6/10) ، وعزاه فيه أيضاً لابن مردويه، وأورده الحافظ ابن رجب في الجامع محتجاً به، وعلته ابن مسعدة.
وابن مسعدة هو: علي الباهلي أبو حبيب البصري، مختلف فيه، وسبق من عدَّله وممن جرحه البخاري وقال: فيه نظر، ولذا تبعه العقيلي فأورده في الضعفاء، وضعفه النسائي وأبوداود وابن عدي في الكامل وقال: أحاديثه غير محفوظة.
ولذا قال الحافظ في التقريب: صدوق له أوهام من السابعة، وقد روى له البخاري في الأدب الترمذي وابن ماجه
وأورد صاحب تهذيب الكمال وتهذيبه هذا الحديث في ترجمته، كما فعل الذهبي في الميزان، وانظره في التاريخ الكبير (6/294) ، والميزان (3/156) ، والتهذيب (3/192) (الرسالة) ، والجرح والتعديل (6/204) .
ولا شك أن معنى الحديث صحيح ثابت في الصحيحين وغيره مما يشهد لهذا الحديث ويقوي جانب ثبوته.

(1/21)


ومن هنا قال الحافظ بن رجب في جامع العلوم والحكم:
((قال المحققون من العلماء: كل مؤمن مسلم، فإن من حقَّق الإيمان، ورسخ في قلبه، قام بأعمال الإسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) فلا يتحقق القلب بالإيمان إلا وتنبعث الجوارح بالأعمال.
وليس كل مسلم مؤمناً، فإنه قد يكون الإيمان ضعيفاً فلا يتحقق القلب به تحقيقاً تاماً، مع عمل جوارحه أعمال الإسلام فيكون مسلماً، وليس بمؤمن الإيمان التام)) اهـ (1) .
*ومعنى افتراقهما: أن يأتي أحدهما في نص دون الآخر، فعندئذٍ يكون أحدهما بمعنى الآخر، فالإسلام هو الإيمان والعكس صحيح.
ولهذا أدلة كثيرة في الوحيين:
-منها قوله تعالى في سورة آل عمران: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الأَخِرَةَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] .
-وفي أولها قوله سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران:19] .
فاقتضينا أن الدين عند الله الإيمان، ومن يبتغ غير الإيمان ديناً فلن يقبل منه.
-ومنه قوله تعالى في خطابه للمؤمنين في آيات كثيرة: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا} [البقرة:104] فإن الخطاب أيضاَ متوجه للذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، مما يدل على تناول أحدهما الآخر عند الانفراد.
-وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان)) متفق عليه واللفظ للبخاري (2) وفي لفظ آخر لهما ((الإيمان بضع وسبعون)) .
__________
(1) جامع العلوم والحكم، شرح الحديث الثاني: حديث جبريل المشهور (28) ، وانظر منهج الحافظ ابن رجب (428) وما بعدها.
(2) أخرجه البخاري موصولاً في كتاب الإيمان – باب أمور الإيمان (9) ، ومسلم في الإيمان أيضاً – باب بيان شعب الإيمان وأفضلها وأدناها (35) .

(1/22)


فإن الإيمان هنا متناول للإسلام لاشتماله على الصلاة والصيام والحج والزكاة.
-ولما في الصحيحين – واللفظ للبخاري- من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يرفعه إليه صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) (1) .
-وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن)) رواه البخاري (2) .
ففى كلا الحديثين المسلم يشمل المؤمن، مما يدل على أنهما بمعنى واحد عند الاجتماع.
-ومن أصرح الأدلة من السنة على كون افتراقهما يُصِّيرُ معناهما واحداً حديث وفد عبد القيس، المتفق على صحته من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبينك هذا الحي من مضر ولا نستطيع أن نأتيك إلا في الأشهر الحرم، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: ((تشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتصوموا رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس)) الحديث (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري موصولاً في الإيمان – باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (10) ، ومسلم في الإيمان أيضاً – باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل (40) .
(2) رواه البخاري وهذا لفظه متصلاً في كتاب الإيمان – باب من الدين الفرار من الفتن (19) .
(3) الحديث أخرجه بطوله البخاري في أحد عشر موضعاً في صحيحه كلها متصلة هذا أولها في كتاب الإيمان – باب أداء الخمس من الإيمان (53) وهذا لفظه، وأخرجه مسلم في الإيمان أيضاً – باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين (17) .

(1/23)


فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم في الحديث – في هذا الحال المهم، والسؤال الأهم – عن الإيمان بأركان الإسلام، فدل على أنهما بمعنى واحد، مما يفيد أن أحدهما يغني عن الآخر عند الإفتراق.
وفي الباب أحاديث غير هذه كثيرة جداً تدل على هذا المقصد، وفيما نقلت الكفاية إن شاء الله (1) .
* * *
زيادة الإيمان ونقصانه:
والبحث فيهما فرع عما سبق من أصل الاختلاف في الإيمان من كونه شيئاً واحداً لا يتجزأ بأن يذهب بعضه وكذا باجتماع الثواب والعقاب، والحسنة والسيئة في العبد الواحد.
فإن الحق الواجب اعتقاده والإيمان به، أن الإيمان يزيد بالإخلاص والطاعات والمسارعة إلى رضوان الله، وتقديم مرضاته وتتبع محابَّه حتى يَستكمل الإيمان في العبد.
وكذا عكسه بأن الإيمان ينقص ويقل كلما ارتكب العبد المحرمات واقترف المنهيات، وفرغ قلبه من تحقيق معاني الألوهية ومعاني أسماء الله وصفاته، وأمره وشرعه حتى يزول الإيمان بالكلية، فتستحكم الشهوات والشبهات عليه؛ فيكون القلب عندئذ أسودَ لا بياض فيه.
يدل على ذلك الأدلة الشرعية والواقع المشاهد.
وذلك أن المؤمن المتقي لله، إنما يتقيه ويؤمن به لقوة الوازع الديني في قلبه.
والعاصي – وهو فاعل الذنب الصغير-، والفاسق – وهو فاعل الكبيرة – لا يعصي ربه إلا بعد ضعف وازع الدين في قلبه!
ومن فضل الله علينا وعلى الناس تكامل دلالة الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة، والآثار السلفية عن الصحابة ومن بعدهم في تأكيد هذه المسألة، وهذا طرف من ذلك.

الأدلة من القرآن على زيادة الإيمان ونقصانه:
فمن ذلك:
__________
(1) ومثل الإسلام والإيمان، مثل البر والتقوى، والفسوق والعصيان، والفقير والمسكين، والإثم والعدوان، والكفر والنفاق، والتوبة والاستغفار، وهكذا كل لفظتين شرعيتين بينهما اشتراك في العموم والخصوص.. والله أعلم.

(1/24)


قوله تعالى في أول الأنفال: {إِنَمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْءَايَتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] .
وقوله سبحانه في أواخر آل عمران: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] .
وفي آخر التوبة: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيماَنًا فَأَمَّا الَّذِينَءَامَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يًسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124-125] .
فالمؤمنون يزدادون إيماناً بنزول القرآن والمنافقون يزدادون كفراً ورجساً وينقص إيمانهم إن كان بقي منه شيء قبل نزوله!
وفي سورة الأحزاب: {وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانَا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] .
وفي أول الفتح: {هُوُ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيماَنًا مَّعَ إِيمَنِهِمْ} [الفتح:4] .
وفي سورة المدثر: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَءَامَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] .
وكما يزيد الإيمان – كما رأينا فيما مضى من نصوص، فإنه يزيد بزيادة أفراده كالخشوع كما في آية السجدة من الإسراء: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:109] .

(1/25)


وزيادة الهدى والهداية كما في قوله في سورة مريم: {وَيَزِيدُ اللهُ الَّّذِينَ اهْتَدَوْا هدًى} [مريم:76] .
وفي سورة محمد: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] .
وقوله عن الفتية أصحاب الكهفِ: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ} [الكهف:13] .
فما زاد شيء إلا نقص، بدليل كونه قبل الزيادة أنقص منه بعدها.
وكما أن الكفر يزيد كما في قوله تعالى في آيتي المائدة: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَنًا وَكُفْرًا} [المائدة:64] . {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَبِ لَسْتُمْ عَلَى شَىْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثيِرًا مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَنًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ} [المائدة:68] .
وقوله في الإسراء: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَكَ إِلاَّ فِتْنةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْءَانِ وَنُخَوِّفهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياَنًا كَبِيرًا} [الإسراء:60] .
وفي آل عمران: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثًمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ} [آل عمران:90] .
وفي النساء: {إِنَ الَّذِينَءَامَنُوا ثُمَّ كّفَرُوا} [النساء:137] .
فكذلك الإيمان يزيد حتى يبلغ أعلى درجاته، والكفر يزيد حتى يسفل إلى أدنى دركاته.
أيضاً مما يدل على زيادة الإيمان عند أهله تفاضلهم فيه، بكون بعضهم أفضل من بعض.
كما قال سبحانه عن الأنبياء: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبيِيِّنَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء:55] .

(1/26)


وفي البقرة: {تَلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَتٍ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِنَتِ وَأَيَّدْنَهُ بِرُوحِ الْقُدُسْ} [البقرة:253] .
وفي الإسراء: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلأَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:21] .
وفاضل سبحانه بين الصحابة في آية الحديد: {لاَيَسْتَوْي مْنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاَتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذينَ أَنفَقَوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10] .
وفاضل بين المجاهدين وغيرهم في سورة النساء: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَعْفِرَةً وَرَحْمَةَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء:95-96] .
ومن ذلك قوله: {الَّذِينَءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةَ عِندَ اللهِ وَأولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة:20] .
وفاضل بين درجات العلماء أهل الإيمان بقوله في سورة المجادلة: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11] .

(1/27)


ومايز سبحانه بين أهل الطاعة والمعصية بقوله في سورة الجاثية: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] ، وفي سورة الواقعة ذكر أصحاب اليمين، ثم أصحاب الشمال، ثم السابقين. وكل هذه المفاضلات للتمايز في زيادة الإيمان

الأدلة من السنة على زيادة الإيمان ونقصانه:
فهي أيضاً متنوعة:
1-فمنها ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينهب نُهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها بأبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)) وهذا لفظ مسلم.
فنفى عنه كمال الإيمان الواجب بفعل هذه الكبائر، مما دل على نقص الإيمان بفعلها.
وهكذا كل ما ورد من نفي كمال الإيمان الواجب أو المستحب تدل على زيادته، ومن ثمَّ نقصانه!
2-ومنها ما عقده البخاري في صحيحه من كتاب الإيمان باباً في تفاضل أهل الإيمان بالأعمال وذكر فيه:
حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: ((يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول عز وجل: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان..)) الحديث متفق عليه.
مما يدل على أنه أنقص المؤمنين إيماناً، ولو كان الإيمان لا يزيد ولا ينقص لاستحق أهله كلهم الجنة، وبدرجات متساوية!
3-وحديث أبي سعيد رضي الله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينا أنا نائم، رأيت الناس يُعرضون عليَّ وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض عليَّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره قالوا: فما أوَّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين)) متفق عليه.
ورؤيا الأنبياء حق، فدل على زيادة الإيمان في أقوام، ونقصانه في آخرين.

(1/28)


4-حديث أبي سعيد الخدري وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبِّ الرجل الحازم من إحداكن، قلن وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل، قلن: بلى؟ قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم، قلن: بلى قال: فذلك من نقصان دينها)) وهذا لفظ البخاري (1) .
فهو وإن كان النقص ليس من فعلهن، لكن من صلى وصام كان أكمل إيماناً منهن بهذا الاعتبار لصلاته وصيامه، وتأمل الترجمة التي تحت الحديث عند مسلم!
5-حديث ابن مسعود رضي الله عنه – عند مسلم في المجاهدة –وفيه: ((فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) . ويفسره ويبين مدلوله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم (2) .
فدل على أن الإيمان لا يزال يضعف بتخلف تلك المراتب وهو النقصان، وتحصيلها هو زيادته.
__________
(1) أخرجه البخاري في مواضع متصلاً أولها في كتاب الحيض- باب ترك الحائض الصوم (298) ، ومسلم في الإيمان – باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات (79، 80) .
(2) رواهما في كتاب الإيمان- باب كون النهي عن المنكر من الإيمان (49،50) .

(1/29)


6-ومثله حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)) (1) .
7-ومثله حديث أبي هريرة وغيره رضي الله عنهم مرفوعاً: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً)) رواه أحمد وأهل السنن.

* * *

الآثار السلفية عن الصحابة ومن بعدهم في زيادة الإيمان ونقصانه:
وهي كثيرة جداً ضمَّنها الأئمة في مصنفاتهم في الإيمان فمن ذلك:
1-أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ربما يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول: قم بنا نزدد إيماناً.
2-وكان معاذ يقول لرجل: اجلس بنا نؤمن ساعة. أي نزدد إيماناً، لم يعن أنه كان غير مؤمن قبلها!
3-وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم: أيزداد هو أم ينقص؟
4-وأما ابن مسعود رضي الله عنه فكان يقول في دعائه: ((اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً)) .
5-وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه كان يأخذ بيد نفر من أصحابه فيقول: ((تعالوا فلنؤمن ساعة، تعالوا فلنذكر الله ولنزدد إيماناً، تعالوا نذكر الله بطاعته لعل الله يذكرنا بمغفرته)) .
__________
(1) رواه عنه الإمام أحمد في المسند (3/438، 440) ، وأبو داود في السنة (4681) . وله شاهد عن معاذ بن أنس رضي الله عنه عند الترمذي (2521) ، والطبراني في الكبير (20/188) ، وعن البراء رضي الله عنه عند أحمد في المسند (4/286) ، وابن أبي شيبة في المصنف 11/41 (هندية) ، وعن أبي ذر رضي الله عنه عند أحمد في المسند (5/146) ، وأبي داود (4599) .

(1/30)


6-وقال عمير بن حبيب الخطمي وغيره من الصحابة: ((الإيمان يزيد وينقص، فقيل له وما زيادته ونقصانه؟ فقال: إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه)) (1) . وعنهم في الباب كثير، وعمَّن بعدهم أكثر.
7-ولذا روى اللالكائي بسند صحيح عن الإمام البخاري أنه قال: ((لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان: قول وعمل ويزيد وينقص)) اهـ (2) .
ولذا نقل ابن عبد البر – في التمهيد – الإجماعَ على ذلك فقال: ((أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية. والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان)) اهـ (3) .
والمقصود تكاثر القول عن الأوائل في تحقيق زيادة الإيمان ونقصانه وهي من الكثرة بمكان.
وهذه المسألة أعني مسألة زيادة الإيمان ونقصانه أظهر المسائل التي تبين آثار الاختلاف في الإيمان، وهي المحك الذي يفترق عليه حقيقة قول أهل السنة والجماعة مع مخالفيهم في مسائل الإيمان التي هي بالأسماء والأحكام.

أسباب زيادة الإيمان ونقصانه:
وهي الأسباب التي إذا حصلها العبد وسعى في طلبها وفعلها تقرباً إلى الله زاد إيمانه بذلك، وإن كان على ضدها نقص، ومنها:
__________
(1) نقله في الإيمان الأوسط (7/505) ، وقال عقبة: ((فهذه الألفاظ المأثورة عن جمهورهم)) اهـ، ورواه عبد الله بن أحمد في السنة (1/315) .
(2) في شرح أصول السنة 2/172 (320) ، وانظر الفتح (1/60-61) ، وكلام السلف الصالح – رضي الله عنهم- منثور في كتب السنة والآثار، وكتاب الإيمان من الإبانة لابن بطة، وتعظيم قدر الصلاة للمروزي، وكتاب السنة للخلال المتضمن للإيمان للإمام أحمد، والإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام، ولابن أبي شيبة، والآجري في الشريعة، وابن أبي عاصم في السنة وغيرهم، رحمهم الله وجزاهم خيراً.
(3) من التمهيد له (9/238) .

(1/31)


1-التقرب إلى الله والتعرف إليه بتحقيق التوحيد بألوهيته وربوبيته وأسمائه الحسنى وصفاته العلى.
فإنه ولا شك كلما ازداد بها تحقيقاً ازداد إيماناً.
2-فعل الفرائض والنوافل والإحسان فيها، والإصابة في صفاتها، والمكاثرة والمسارعة والمداومة في ذلك.
3-ترك المعاصي والمنهيات تقرباً إلى الله وابتغاء وجهه سبحانه.
4-النظر والاعتبار في آيات الله الشرعية، ومنها العلم، وآياته الكونية المورث للعلم والعمل، ولين القلب.
5-الإقبال على الدار الآخرة والسعي لها، والزهد في الدنيا والإعراض عن زخرفها بملاحظة ما أعده الله لعباده الصالحين المستكملين للإيمان، وما أعده لإرضائهم.
6-التزام السنة النبوية والعض عليها بالنواجذ، ولو مع قلة المعاون علماً وفهماً وعملاً ودعوة.
7-كثرة سؤال الله والتضرع إليه بالثبات على دينه، حسن العاقبة وسؤاله الهداية وحسن العمل وقبوله والاستزادة من الخير، والانطراح بين يديه لاسيما في الأوقات الفاضلة المستجابة.
المخالفون في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه:
وهم طوائف، ولربما توحد قولهم في هذه المسألة لكن اختلفت بينهم حقيقته، ومنهم:
1-المرجئة فقالوا الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واعتبروا زيادته في الآيات والأحاديث تجدد أمثاله (1) .
2-الوعيدية من الخوارج والمعتزلة: فقالوا الإيمان يزيد ولا ينقص، لأنه لا يتبعض فنقصه ذهابه كله.
أما تجويزهم زيادته فمن جهة اختلاف الناس في وجوب التكاليف في وقت وحال دون أخرى (2) .
__________
(1) انظر الإيمان (211-234، 384، 390) ، والفرقان بين الحق والباطل (13/52) وما بعدها، والإيمان في الأوسط (7-562) وما بعدها.
(2) ذكر هذين القولين هاهنا أبو جعفر ابن جرير في التبصير في معالم الدين 195 وما بعدها، وقول الخوارج قالت به الإباضية كما في جامع البسيوي (1/237-239) ،والمشارق للنور السالمي (1/312) ، وانظر متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار (1/312) .

(1/32)


والحق كما سبق أن الإيمان يزيد بالطاعات حتى يكتمل، وينقص بالمعاصي والذنوب حتى يزول بالمكفر منها.

* والمروي عن الإمام مالك في زيادة الإيمان ونقصانه:
وعن غيره من الفقهاء من أتباع التابعين، فإن الإمام مالك في رواية عنه أنه لم يوافق في إطلاق النقصان على الإيمان.
فإنه في رواية محمد بن القاسم عنه توقف في النقصان ولم يقل به..
ووافقه على ذلك جماعة من الفقهاء، لأنهم وجدوا ذكر الزيادة في القرآن ولم يجدوا ذكر النقص.
وبعض السلف رحمهم الله عدل عن لفظ الزيادة والنقصان إلى لفظ التفاضل، فقال: أقول الإيمان يتفاضل ويتفاوت.
ويروى هذا عن عبد الله بن المبارك (1) ، كما يروى عنه موافقة الجمهور من السلف بالقول بزيادته ونقصانه كما حكاه عنه النووي (2) .
هذا وقد وجّه العلماء وأجابوا عن قول الإمام مالك السابق في التوقف بالنقصان بعدة أجوبة منها:
1-أن لفظ الزيادة ورد في النصوص، دون لفظ النقصان، فلم يقل به.
وهذا جواب قاله الشيخ ابن تيمية عن مالك ومن وافقه رحمهم الله.
2-توقف مالك بالنقصان لئلا يكون شكاً مخرجاً عن اسم الإيمان.
3-أو لئلا يتأول القول بالنقصان على قول الخوارج والوعيدية، الذين يكفرون بالمعاصي ويخرجون بها عن الإيمان. وهذان الجوابان حكاهما النووي في شرحه لمسلم.
4-ربما كان قوله ذلك قديماً، رجح عنه بعد ذلك ولاسيما بعد تأمله لحال المرجئة وبدعتهم، لما عُرف عنه بعدُ من ردِّه عليهم، وإنكاره عليهم كما أنكر على حماد بن أبي حنيفة وغيره منهم.
__________
(1) ذكره الشيخ أبو العباس ابن تيمية في الإيمان الوسط (7/506-507) ،وقال معقباً على قول ابن المبارك: ((وكان مقصوده الإعراض عن لفظ وقع فيه النزاع إلى معنى لا ريب في ثبوته)) اهـ، مما يفيد أن المسألة لفظية لا طائل من النزاع فيها. وقول ابن المبارك: ((إن الإيمان قول وعمل ويتفاضل)) ، رواه عبد الله بن أحمد في السنة (1/316) .
(2) في شرح صحيح مسلم (1/146) .

(1/33)


5-وربما هو وَهْمٌ من ناقليه، لما يعرض للمدرس في درسه من التوقف في مسائل، لا لعدم الجواب فيها عنده، وإنما لزيادة تأمل فيها ونظر وبحث، أو لعارض يعرض له في خاطره يسترسل معه.. ونحو ذلك.
* والقول الراجح عن مالك في ذلك:
وعلى كل حال فإن الاحتمالات متطرقة للرواية التي توقف فيها مالك عن القول بنقصان الإيمان، وهي رواية محمد بن القاسم.
كيف وقد روى جمهور أصحابه روايات أخرى صرح فيها الإمام مالك بزيادة الإيمان ونقصانه، كما في رواية عبد الرزاق بن همام الصنعاني، وعبد الله بن وهب، ومعمر بن عيسى، وعبد الله بن نافع (1) .
فعلى هذه الروايات الكثيرة عنه العمل، وهي موافقه لما يرد على الأولى من الاحتمال والتأويل؛ لما فيها من ثبوت النقصان في الإيمان عنه رحمه الله.
قال شيخ الإسلام في الأوسط: ((… وهذه إحدى الروايتين عن مالك، والرواية الأخرى عنه، وهو المشهور عند أصحابه، كقول سائرهم (يعني الأئمة) : أنه يزيد وينقص)) اهـ (2) .

* * *

مسألة الإيمان المطلق ومطلق الإيمان:
وهي أصل آخر إليه يرجع الاختلاف في هذه المسألة، أعني مسألة الإيمان. فإن من لم يفرق بين الإيمان المطلق، ومطلق الإيمان لم يتصور اجتماع الثواب والعقاب، والطاعة والمعصية، والحسنة والسيئة، والسنة والبدعة في الشخص الواحد.
__________
(1) انظر هذه الروايات في التمهيد لابن عبد البر (9/252) ، ومسائل الإمام أحمد لأبي داود (113) ، والسنة لعبد الله بن أحمد (87) ، والشريعة للآجري (118) ،وشرح أصول السنة للالكائي 5/957، وشرح مسلم للنووي (1/146-147) .
(2) في الإيمان الأوسط ضمن الفتاوى (7/506) .

(1/34)


وفي هذا يقول الشيخ ابن تيمية في ((العقيدة الواسطية)) عن أهل السنة والجماعة: ((ولا يسلبون الفاسق المليَّ اسم الإيمان بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان في مثل قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنَا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مَّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كاَنَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مَّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء:92] .
وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: {إَنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذاَ ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُم وَإِذاَ تُلِيَتْ عَلَيْهِمْءَايَتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَا} [الأنفال:2] .
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)) .
ويقولون: ((هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرة. فلا يُعطى الاسم المطلق، ولا يُسلب مطلق الاسم)) اهـ.
فإن الإيمان المطلق هو الإيمان الكامل، الذى تناول فعل المأمور واجتناب المحذور والمحظور.
أما مطلق الإيمان، فهذا يشمل الإيمان الكامل، والإيمان الناقص الذي صاحَبَه ذنبٌ كَبُرَ أو صَغُر دون الكفر أو الشرك النافي لأصل الإيمان، فهو الحد الأدنى من الإيمان، وهو القدر الذي يخلص به من الكفر.
فمطلق الإيمان، هو ما بقى فيه أصل الإيمان، وثبت لصاحبه اسم الإيمان، وصح نسبة الإيمان إليه ولو لم يكمله.
* * *

حقيقة الخلاف مع مرجئة الفقهاء:

(1/35)


وهو خلاف أهل السنة والجماعة مع مرجئة الفقهاء الذين قالوا ((إن الإيمان قول وتصديق)) ، فأخرجوا العمل عن مسمى الإيمان كما هو المشهور عن الإمام أبي حنيفة وحماد بن أبي سليمان وأتباعهما – وهم الذين يقال لهم: مرجئة الفقهاء أو مرجئة الكوفة أو مرجئة العراق.
فقد ظن بعض العلماء أن النزاع بين جمهور أهل السنة، ومرجئة الفقهاء، اختلاف صوري لفظي، كما ذكره شارح الطحاوية فيها، وقبله أبو حامد الغزالي (1) ، وهذا القول فيه وجه حق سيأتي إن شاء الله.
في حين يرى البعض أن الاختلاف حقيقي وليس لفظياً كما قال به الألوسي محمود وعبيد الله المباركفوري (2) وغيرهما، وهذا أيضاً له وجهه.
* وقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية الخلاف ههنا فجمع بين القولين فجعله نزاعاً لفظياً في كثير من مسائله، وحقيقاً مؤثراً في بعض منها.
قال رحمه الله في شرح الأصفهانية: ((.. وإنما المقصود أن فقهاء المرجئة خلافهم مع الجماعة خلاف يسير، وبعضه لفظي، ولم يُعرف بين الأئمة المشهورين بالفتيا خلاف إلا في هذا، فإن ذلك قول طائفة من فقهاء الكوفيين كحماد بن أبي سليمان وصاحبه أبي حنيفة وأصحاب أبي حنيفة)) (3) .
وحصر هذا النزاع في موطن آخر بكونه من بدع الأقوال والأفعال، لا بدع العقائد فقال في الإيمان: ((.. إنه لم يكفر أحد من السلف مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا بدع العقائد، فإن كثيراً من النزاع فيها لفظيٌّ، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب)) اهـ (4) .
__________
(1) انظر شرح الطحاوية في موضعين أكد فيه ابن أبي العز على ذلك (462،470) ، وانظر سير أعلام النبلاء، وتفسير روح المعاني (9/167) .
(2) في روح المعاني (9/176) . ومرقاة المفاتيح للمباركفوري (1/37) .
(3) شرح الأصفهانية (143) .
(4) من الإيمان ص (337) .

(1/36)


وقال في الإيمان الأوسط: ((فصل: ثم بعد ذلك تنازع الناس في اسم المؤمن والإيمان نزاعاً كثيراً منه لفظيٌّ، وكثير منه معنوي. فإن أئمة الفقهاء لم ينازعوا في شيء مما ذكرناه من الأحكام، وإن كان بعضهم أعلم بالدين وأقوم به من بعض، ولكن تنازعوا في الأسماء..)) اهـ (1) .
هذا وقد حدد الشيخ جوانب النزاع اللفظي بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء في بعض الصور لما قال في كتابه الإيمان:
((ومما ينبغي أن يُعرف؛ أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي. وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء كحماد بن أبي سليمان، وهو أول من قال ذلك، ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم، متفقون مع جميع علماء السنة:
- على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد، وإن قالوا: إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل، فهم يقولون: إن الإيمان بدون العمل المفروض، ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقاً للذم والعقاب، كما تقوله الجماعة.
-ويقولون أيضاَ: بأن من أهل الكبائر من يدخل النار، كما تقوله الجماعة.
-والذين ينفون عن الفاسق اسم الإيمان من أهل السنة متفقون على أنه لا يخلد في النار.
فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب إذا كانوا مقرين باطناً وظاهراً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما تواتر عنه أنهم من أهل الوعيد، وأنه يدخل النار منهم من أخبر الله ورسوله بدخوله إليها، ولا يُخلد منهم فيها أحد، ولا يكونون مرتدين مباحي الدماء)) اهـ (2) .
ولذا فإنك تجد كتب الفقه عند مرجئة الفقهاء مليئة بتقرير الأحكام العملية وترتيب الجزاءات عليها، وهذا مما يستصحب كون النزاع معهم لفظياً؛ إذ لو كان العمل غير واجب لما قرَّروه هذا التقرير في كتب فروعهم، التي هي من أخصب المذاهب الفقهية بسطاً لتلك المسائل.
__________
(1) الإيمان الأوسط (7/540-505) ضمن الفتاوى.
(2) من كتاب الإيمان (281-282) ، وانظر المجموع نفسه (7/297) .

(1/37)


ولكن من نظر إلى بعض المسائل المترتبة على الخلاف مع مرجئة الفقهاء:
-مسائل زيادة الإيمان ونقصانه.
-واستواء الناس في أصل الإيمان.
-وتحريم الاستثناء في الإيمان مطلقاً، كما تقول مرجئة الفقهاء، يكون الخلاف والحالة هذه حقيقياً (1) .
فصح من ذلك أن التحقيق في الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء، منه ما هو خلاف لفظي وصوري كالاختلاف في الأعمال ودخولها في مسمى الإيمان إذ الجميع يوجبها، ويترتب الوعيد على تاركها ويجعله مستحقاً للعقاب، مع القول بعدم تخليد أصحاب الذنوب في النار وتحقق الوعيد المجمل فيهم.
ومن نظر إلى المسائل الأخرى وما تنتظم فيها ويترتب عليها من البدع يقرُّ بحقيقة الخلاف.. والله أعلم.
هذا وثمة مسائل أخرى مهمة لها ارتباط وثيق بمسألة الإيمان.
1-كمسألة دخول الأعمال في مسمى الإيمان.
2-ومسألة الخلاف في مرتكب الكبيرة.
3-ومسألة الاستثناء في الإيمان.
- تناولتها في التعليق على الكتاب بما أغنى عن إعادتها وتكرارها هنا.

* * *

الكفر عند أهل السنة والجماعة ومخالفيهم
الحمد لله، هذا البحث في الحقيقة هو نتيجة البحث في الإيمان من حيث مسماه وتعريفه، وأركانه وزيادته ونقصانه، بل وعلاقته بالإسلام في حالي الاجتماع والافتراق.
وبين يدي ذلك أمهد بتمهيد إجمالي حول معنى الإيمان عند أهل السنة ومخالفيهم كما وصف شيخ الإسلام ابن تيمية قولهم في الإيمان في ((العقيدة الواسطية)) بأنهم وسط في باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية.
* فالإيمان عند أهل السنة والجماعة: قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان، يزيد بطاعة الرحمن، وينقص بمعصيته وطاعة الشيطان.
* أما الإيمان عند الوعيدية من الخوارج الحرورية والمعتزلة: فهو قول وعمل واعتقاد لا يزيد ولا ينقص، بل هو كلٌّ إذا زال بعضه زال جميعه.
__________
(1) وانظر بحث مفهوم الإيمان عند السلف وغيرهم للعبد الفقير (101-105) .

(1/38)


ولذا فالخوارج يكفِّرون بالذنب في الدنيا، ويخلدون صاحبه في النار في الآخرة. والمعتزلة لا يجعلون مؤمناً في الدنيا؛ بل إنه في منزلة بين المنزلتين، فهو خرج من الإيمان ولما يدخل إلى الكفر، لكنهم يخلدونه في الآخرة في النار، موافقين في الحكم الأخروي الخوارج.
* أما الطرف الآخر فهم المرجئة، وهو على مراتب في انحرافهم في الإيمان والكفر.
1-فغلاتهم، وهم الجهمية، فالإيمان عندهم هو معرفة الله، وبالتالي الكفر هو: الجهل بالله؛ فيكون إبليس وفرعون ونحوهم مؤمنون، وهذا أقبح المذاهب في الإيمان، وهم المرجئة المحضة الخالصة.
2-والأشاعرة والمتكلمون، الإيمان عندهم هو تصديق القلب. فيكون الكفر هو التكذيب ومازاد عليه كالجحود.
3-والكرّامية فالإيمان عندهم: قول اللسان. والكفر عندئذ بعدمه!
4-وأخف طوائف المرجئة: مرجئة الفقهاء، أو مرجئة العراق وهم من قالوا إن الإيمان: قول اللسان وتصديق القلب فقط. فخطؤهم في إخراج العمل من الإيمان.
وبين المذهبين الأخيرين قول أبي منصور الماتريدي، وهو رواية عن أبي حنيفة أن قول اللسان ركن زائد، ليس بأصلي، والأصلي اعتقاد القلب فقط!
فلابد لك- أيها القارئ- من فهم قول أهل السنة وقول مخالفيهم حقاً لتحذره وتسلم منه قولاً وعملاً وقصداً.
أهمية الموضوع:

(1/39)


1-وأهمية البحث في موضوع الكفر وبيانه تكمن في وجوب الحذر منه والبعد عنه، فهو علامة شقاوة العبد في الدنيا والآخرة. وهو أيضاً أعظم الذنوب والآثام وأشدها خطراً وأعظمها وقعاً وأثراً وهو أخوف ما يخافه ويحذره المؤمنون، وفي ذلك نصوص من الوحيين كثيرة جداً منها قوله تعالى في سورة المائدة: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخِاسِرِينَ} [المائدة:5] . وفي سورة النساء يقول عز وجل: {يَا أيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواءَامِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الأَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالآً بَعِيداً} [النساء:136] . ويقول سبحانه في سورة البقرة: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَبِيلِ} [البقرة:108] .
2-ومن أهمية موضوع الكفر أن عاقبته في الآخرة خلود صاحبه في النار، ودوام عذاب جهنم عليه فيها أبداً، حيث نصَّ الله على ذلك الخلود المؤبد لهم في عذابه في ثلاثة مواضع من كتابه المنزل:
* أولها في آخر سورة النساء، حيث قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً * ِإنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً} [النساء: 167-169] .

(1/40)


* وثانيهما في آخر سورة الأحزاب يقول سبحانه: {يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً * إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرَا * خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا لاَّيَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاَنَصِيرًا} [الأحزاب:63-65] .
* وثالثها وفي آخر سورة الجن {وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} الآية. وحديث الخلود لأهل الجنة بالجنة، ولأهل النار فيها بذبح الكبش في صورة الموت، حديث مشهور معروف.
مع ما رتب الله على الكفر من العذاب الشديد والسعير السرمدي، وسخطه وعقوبته ما يضيق هذا الموضع عن بسطه وتعداد أنواعه المذكورة في كلامه تعالى القرآن.
*ويدل عليه قوله سبحانه في سورة فاطر: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36] .
3- ومن أهمية هذا الموضوع؛ موضوع الكفر أنه قسيمُ الإيمان في مسألة الأسماء والأحكام في اسم العبد في الدنيا هل هو مؤمن أو كافر؟ ثم حكم ذلك المترتب عليه في الآخرة أمن أهل الجنة؟ أم من أهل النار؟.
ولو لم يكن من أهمية البحث هذا إلا بيان جلالة هذه المسألة: مسألة الأسماء والأحكام، لكفى بذلك، وحسبك به!
وقد لفت علماء الإسلام في تصانيفهم ومؤلفاتهم الانتباه إلى موضوع الإيمان والرد على المرجئة من جهة، والرد على الوعيدية من الخوارج والمعتزلة من جهة أخرى.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في (الكيلانية:12/468) ضمن الفتاوى في معرض بيانه لموضوع الكفر والتكفير وعلاقته بالهدى، وأسبابه ودواعيه، ومنهج المبتدعة فيه.

(1/41)


((فصل: إذا تبين ذلك فاعلم أن مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل الأسماء والأحكام التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة، وتتعلق بها الموالاة والمعاداة، والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا؛ فإن الله سبحانه أوجب الجنة للمؤمنين، وحرم الجنة على الكافرين، وهذا من الأحكام الكلية في كل وقت ومكان..)) .
وبنحو هذا ما لخصه الحافظ ابن رجب في شرحه لحديث جبرائيل عليه السلام في الإسلام والإيمان والإحسان حيث يقول:
((وهذه المسائل: أعني مسائل الأسماء والإيمان، والكفر والنفاق، مسائل عظيمة جداً؛ فإن الله عز وجل علَّق بهذه الأسماء السعادة والشقاوة واستحقاق الجنة والنار.
والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة، وهو خلاف الخوارج للصحابة، حيث أخرج الخوارج عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية، وأدخلوهم في دائرة الكفر، وعاملوهم معاملة الكفار، واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأقوالهم.
ثم حدث بعدهم خلاف المعتزلة وقولهم بالمنزلة بين المنزلتين.
ثم حدث خلاف المرجئة وقولهم: إن الفاسق مؤمن كامل الإيمان.
وقد صنف العلماء قديماً وحديثاً في هذه المسائل تصانيف متعددة..)) اهـ.
هذا طرف مهم من أهمية موضوع الكفر والإيمان، والتبصر فيهما وتعلم مسائلهما وإدراك ذلك إدراكاَ جيداً، مع الحذر الشديد من الانزلاق في مهاوي التكفير والتبديع والتفسيق، أو الحكم على المعَيَّن بكمال إيمان، أو جنة أو نارٍ إلا من شهد له النص الشريف من الوحيين بذلك، فهذه قاعدة أصيلة من قواعد أهل السنة والجماعة؛ بل ومن أصول عقائدهم.

* * *

الكفر ومعناه:
بعد تبين أهمية معرفة الكفر وتأكده على المسلم الحريص على نجاته وسلامة دينه وعاقبته، اعلم- رحمك الله- أن الكفر له في أصل معناه عدة معانٍ.

(1/42)


-منها الستر والتغطية، ومنه سُمي الزُّرَّاع كفاراً لأنهم يغطون البذر في الأرض، كما قال تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} [الحديد:20] .
-ومنه الجحود والرد كقوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُم مَّاعَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] . وكذا جحود النعم في قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِى وَلاَتَكَفُرُونِ} [البقرة:152] .
-ومنه التبرؤ والبراءة، كما ذكر الله ذلك عن الكافرين بعضهم مع بعض يوم القيامة في قوله من سورة العنكبوت: {ثُمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَالَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ}
أما المعنى الشرعي الاصطلاحي للكفر فهو في موارد نصوص الوحيين الكثيرة التي تجعل الكفر في عدم الإيمان أو عدم التوحيد أو الوقوع في الشرك والردة..
فالإيمان والكفر متى حصل أحدهما حصولاً كاملاً انتفى الآخر. أما إذا وقع أحدهما ناقصاً اشترك معه الآخر في هذا النقص.
ولما كان شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- وهو من هو في علمه وفهمه وترسمه منهج السلف الصالح – اعتنى بهذه المسألة العقدية عناية واضحة في تصانيفه، فإني أنقل لك بعض كلامه هاهنا:
1-فقال في قاعدة في الفتاوى (20/86) : ((الكفر عدم الإيمان باتفاق المسلمين سواء اعتقد نقيضه وتكلم به، أو لم يعتقد شيئاً ولم يتكلم.
-ولا فرق في ذلك بين مذهب أهل السنة والجماعة الذين يجعلون الإيمان قولاً وعملاً بالباطن والظاهر.
-وقول من يجعله نفس اعتقاد القلب كقول الجهمية وأكثر الأشعرية.
-أو إقرار اللسان كقول الكرامية.
-أو جميعها كقول فقهاء المرجئة وبعض الأشعرية.

(1/43)


فإن هؤلاء مع أهل الحديث وجمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنبلية وعامة الصوفية وطوائف من أهل الكلام من متكلمي السنة وغير متكلمي السنة من المعتزلة والخوارج وغيرهم، متفقون على أن من لم يؤمن بعد قيام الحجة عليه بالرسالة فهو كافر، سواء كان مكذبا أو مرتاباً أو معرضاً أو مستكبراً أو متردداً أو غير ذلك)) اهـ.
فبيَّن الشيخ أن الكفر يكون بالاعتقاد أو بعدمه، فلم ينحصر بالتكذيب، بل وأيضاً هو في الارتياب أو الإعراض أو الاستكبار أو التردد.
3-ويقول تلميذه ابن القيم في كتاب الصلاة (53) : (( ... فالكفر والإيمان متقابلان إذا زال أحدهما خلفه الآخر)) اهـ.
4-ويقول شيخ الإسلام رحمه الله في ((درء التعارض)) في معرض رده على المتكلمين في أصول التكفير عندهم (1/242) :
(( ... فإنه ليس في الشرع أن من خالف مالا يعلم إلا بالعقل يكفر، وإنما الكفر يكون بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم..)) اهـ.
فهنا الكفر يكون بالتكذيب تارة ويكون بغيره تارات، وليس الكفر محصوراً ومقيداً بالتكذيب، فإن الامتناع عن متابعة الرسول يكون كفراً حتى لو لم يصاحبه تكذيب، فإن فرعون يعلم صدق موسى في رسالته كما ذكر الله عز وجل عنهم بقوله عنهم في سورة النمل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} .
وفي سورة الإسراء يقول الله عز وجل عن موسى لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلآءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّى لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} .

(1/44)


وكذا اليهود وأهل الكتاب يعلمون صدق الرسول صلى الله عليه وسلم: بل ويعرفونه أشد من معرفتهم لأبنائهم، كما يقول عز وجل في سورة البقرة: {الَّذِينَءَاتَيْنَاهمُ الْكِتَابَ يَعْرِفونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
فالكفر يكون بالتكذيب والجحود ويكون بغيره من الإعراض والشك والاستكبار....)) اهـ.
5-ويقول – رحمه الله- في أول ((الكيلانية)) من مجموع الفتاوى 12/335:
(( ... فإن الكفر عدم الإيمان بالله ورسله، سواء كان معه تكذيب، أو لم يكن معه تكذيب؛ بل شك وريب، أو إعراض عن هذا كله حسداً أو كبراً أو اتباعاً لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة.
وإن كان الكافر المكذب أعظم كفراً، وكذلك الجاحد المكذب حسداً مع استيقان صدق الرسل، والسور المكية كلها خطاب مع هؤلاء)) .

* * *

قواعد مهمة في معرفة أنواع الكفر:
وهذه القاعدة في أصلها جنس تشمل عدة قواعد وضوابط لا بد من معرفتها قبل ذكر أنواع الكفر بالقلب والقول والعمل.
حيث يترتب على فهم هذه القواعد والضوابط فهم موضوع الكفر والتكفير عند أهل السنة والجماعة، واطراد قواعدهم وأصولهم فيه وعدم اضطرابها. وهذه القواعد والضوابط هي كالتالي:
1-الكفر اصطلاح وحكم شرعي محضٌ مرده إلى الله في كتابه، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة الثابتة عنه، وليس مبناه على الهوى والتشهي وسوء الظن أو فاسد الفهم.
فمن كفَّرهم الله أو كفَّرهم رسوله صلى الله عليه وسلم عيناً أو جنساً أو وصفاً وجب وتعَّين تكفيرهم، وما لا فلا، وليس لأحد ابتداء تكفيرهم دون مستند شرعي صحيح وصريح.
-فممن كُفِّر في النص الشريف وحياً على سبيل التعيين: إبليس وفرعون.
-وممن كُفِّر جنساً: المشركون واليهود والنصارى والمجوس ونحوهم.

(1/45)


-وممن كُفِّر وصفاً: المستهزئ بالله أو بآياته أو برسوله، والمحكِّم لغير ما أنزل الله، والساحر والكاهن ومدعي علم الغيب ونحوهم.
2- أن الكفر كالإيمان له شعب كثيرة، فكما صحَّ في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان)) .
وفي لفظ في البخاري: ((الإيمان بضع وستون شعبة)) الحديث، وهو في مسلم أيضا.
وكذلك الكفر له شعب وأنواع كثيرة، ضابطها ما سُميَّ شرعاً في الوحيين من كتاب الله وسنة رسوله كفراً، دون تسمية غيرهما.
ولذا يقرر ابن القيم رحمه الله في كتاب الصلاة ص (53-54) :
((فصل: معرفة الصواب في هذه المسألة مبني على معرفة حقيقة الإيمان والكفر، ثم يصح النفي والإثبات بعد ذلك، فالكفر والإيمان متقابلان إذا زال أحدهما، خلفه الآخر. ولما كان الإيمان أصلاً له شعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى إيماناً، فالصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة والحج والصيام، والأعمال الباطنة كالحياء، والتوكل، والخشية من الله، والإنابة إليه حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق، فإنه شعبة من شعب الإيمان، وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً، منها ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى، ويكون إليها أقرب.

(1/46)


وكذلك الكفر ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر، والصدق شعبة من شعب الإيمان، والكذب شعبة من شعب الكفر، والصلاة والزكاة والحج والصيام من شعب الإيمان، والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان.
وشعب الإيمان قسمان: قولية وفعلية، وكذلك شعب الكفر نوعان: قولية وفعلية. ومن شعب الإيمان القولية: شعبة يوجب زوالها زوال الإيمان، فكذلك من شعبه الفعلية ما يوجب زوال الإيمان. وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية، فكما يكفر الإتيان بكلمة الكفر اختياراً، وهي شعبة من شعب الكفر، فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، فهذا أصل.
وههنا أصل آخر، وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل. والقول قسمان: قول القلب، وهو الاعتقاد، وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب،. وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح، فإذا زالت هذه الأربعة، زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب، لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة. وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق، فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة، فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب، وهو محبته وانقياده، كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول، بل ويقرون به سراً وجهراً ويقولون: ليس بكاذب، ولكن لا نتبعه، ولا نؤمن به.

(1/47)


وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب، فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، ولاسيما إذا كان ملزوماً لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم كما تقدم تقريره، فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح؛ إذ لو أطاع القلب وانقاد، أطاعت الجوارح، وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، وهو حقيقة الإيمان. فإن الإيمان ليس مجرد التصديق، كما تقدم بيانه، وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد، وهكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبيِّنه، بل هو معرفته المستلزمة لاتباعة، والعمل بموجبه، وإن سمي الأول هدى، فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء، كما أن اعتقاد التصديق، وإن سمي تصديقاً، فليس هو التصديق المستلزم للإيمان، فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته)) اهـ.
*ملاحظة وتنبيه:
ولما كان الكفر شعباً كثيرة، فإن هذه الشعب متفاوتة، الكفر فيها درجات، فمنها الكفر الأكبر كسب الله ورسوله ودينه، ومنها الكفر الأصغر؛ كسب المسلم وقتله والنياحة، كما أن الكفر الأكبر، شعبه متفاوتة أيضاً تفاوتاً واضحاً، وكل من نوعي الكفر الأكبر والأصغر على مراتب بعضها أشد من بعض، ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية كما في الفتاوى (20/87) : ((واعلم أن الكفر بعضه أغلظ من بعض، فالكافر المكذب أعظم جرماً من الكافر غير المكذب؛ فإنه جمع بين ترك الإيمان المأمور به، وبين التكذيب المنهي عنه، ومن كفر وكذَّب وحارب الله ورسوله والمؤمنين بيده أو لسانه، أعظم ممن اقتصر على مجرد الكفر والتكذيب، ومن كفر وقتل وزنا وسرق وصد وحارب كان أعظم جرماً)) اهـ.
3-أن الكفر نوعان: كفر أكبر مخرج عن الملة، ومحبط للعمل، وموجب للخلود في النار، ولا يُغفر لصاحبه، وينفى عن صاحبه اسم الإيمان أصلاً وكمالاً، كالسحر وسب الله أو رسوله أو دينه أو كتابه أو الإعراض عن دين الله..!!

(1/48)


وكفر أصغر لا يخرج من الملة ولا يحبط العمل ولا يوجب الخلود في النار، وهو تحت مشيئة الله في مغفرته، ولا ينافي أصل الإيمان، بل ينافي كماله الواجب، وهو حكم الكبائر من الذنوب، كالنياحة على الميت، والطعن في الأنساب، وقتال المسلم..الخ.
-كما أن الشرك والظلم والفسق والنفاق نوعان أكبر وأصغر.
وهذا الأمر مشهور معروف بين العلماء قد تواردوا عليه، ولا أظن ذا علم ينكره، أو يتطرق إليه شك فيه.
ومضى في النقل السابق عن ابن القيم في كتابه (الصلاة) مايؤيده.
4-أنه هناك علاقة بين الكفر الأكبر والشرك الأكبر، وهي علاقة عموم وخصوص، فكل شرك كفر وليس كل كفر شركاً.
فالذبح لغير الله والنذر له والخوف منه خوف عبادة؛ شرك مع الله في تلك العبادات، وهو كفر أكبر مخرج عن الملة، ومناقض للإيمان.
أما سب الله ورسوله ودينه أو الاستخفاف بشرعه أو بالمصحف ونحو ذلك فهو كفر مخرج عن الملة، ولا يعد شركاً في الاصطلاح.
وكذلك الإعراض أو الاستكبار أو الشك والارتياب فهو كفر أكبر ولا يُسمى شركاً.
5-أن الكفر ورد في موارده المعتبرة في نصوص الوحيين الشريفين: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرد على صورتين:
1-مُعرَّفاً بالألف واللام، فالمراد به الكفر المعهود أو المستغرق في الكفر، وهو المخرج من الملة.
2-ويأتي منكراً غير مُعرَّف لا بالألف واللام، ولا بالإضافة والتخصيص.
فلا يعد بالصورة الثانية كفراً أكبر؛ بل الأصل فيه أنه كفر أصغر لا يخرج من الملة.
ومثل الفرق بين تلك الصورتين للفظة الكفر، كذلك هناك فرق بين الاسم المطلق للكفر، وبين مطلق اسم الكفر، كما قلنا سابقاً، والمطلب العاشر في الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان.
وهذا المعنى هو ما قرَّره الشيخ أبو العباس ابن تيمية في كتابه ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/237-238) حيث يقول:

(1/49)


((وروى مسلم في صحيحه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اثنتان في الناس هما بهم كفر)) .
أي هاتان الخصلتان هم كفر قائم بالناس، ففي الخصلتين كفر، حيث كانتا من أعمال الكفار، وهما قائمتان بالناس، لكن ليس كل من قام من شعبة من شعب الكفر يصير كافراً الكفر المطلق، حتى يقوم به حقيقة الكفر.
كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمناً، حتى يقوم من أصل الإيمان وفرق بين الكفر المعرف باللام، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة)) . وبين كفر مُنكرٍ في الإثبات.
وفرق أيضاً بين معنى الاسم المطلق إذا قيل: كافر، أو مؤمن، وبين المعنى المطلق للاسم في جميع موارده، كما في قوله: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض)) .
فقوله: ((يضرب بعضكم رقاب بعض)) تفسير الكفار في هذا الموضع، وهؤلاء يُسمون كفاراً تسمية مقيدة، ولا يدخلون في الاسم المطلق إذا قيل: كافر، ومؤمن.
كما أن قوله تعالى: {مِن مَّآءٍ دَافقٍ} سمى المني ماء تسمية مقيدة، ولم يدخل في الاسم المطلق حيث قال: {فلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا} ..)) .
6-أن أهل السنة والجماعة يعظمون لفظ التكفير جداً، ويجعلونه حقاً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فقط، فلا يجوز ولا يسوغ عندهم تكفير أحدٍ إلا من كفره الله أو كفره رسوله.
ولذا يقول الطحاوي في عقيدته المشهورة المتداولة: ((ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله. ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله)) .
وكذا قرره ابن تيمية في عقيدته: الواسطية المتلقاه بالقبول، حيث يقول:
((فصل، ومن أصل أهل السنة: أن الدين والإيمان قول وعمل: قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.

(1/50)


وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج؛ بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي..)) إلى آخر الفصل.
وإنما أهل البدع والأهواء هم الذين شعارهم تكفير من خالفهم فضلاً عن لمزهم وتعييرهم، ولذا يقول- رحمه الله-في ((الكيلانية)) 12/466:
((وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة.
فصل: وأما تكفير قائل هذا القول فهو مبني على أصل لابد من التنبيه عليه، فإنه بسبب عدم ضبطه اضطربت الأمة اضطراباً كثيراً في تكفير أهل البدع والأهواء كما اضطربوا قديماً وحديثاً في سلب الإيمان عن أهل الفجور والكبائر.
وصار كثير من أهل البدع مثل الخوارج والروافض والقدرية والجهمية ويعتقدون اعتقاداً هو ضلال يرونه هو الحق، ويرون كفر من خالفهم في ذلك، فيصير فيهم شوب قوي من أهل الكتاب في كفرهم بالحق وظلمهم للخلق- ولعل أكثر هؤلاء المكفرين يُكفِّر بـ ((المقالة)) التي لا تفهم حقيقتها ولا تعرف حجتها.
وبإزاء هؤلاء المكفرين بالباطل أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة كما يجب، أو يعرفون بعضه ويجهلون بعضه، وما عرفوه منه قد لا يبينونه للناس بل يكتمونه، ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة، ولا يذمون أهل البدع ويعاقبونهم، بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين ذماً مطلقاً، لا يفرقون فيه بين ما دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع، وما يقوله أهل البدع والفرقة.
أو يقرُّون الجميع على مناهجهم المختلفة، كما يُقرَّ العلماء في مواضع الاجتهاد التي يسوغ فيها النزاع، وهذه الطريقة قد تغلب على كثير من المرجئة وبعض المتفقهة والمتصوفة والمتفلسفة، كما تغلب الأولى على كثير من أهل الأهواء والكلام، وكلا هاتين الطريقتين منحرفة خارجة عن الكتاب والسنة)) أهـ.

(1/51)


والمقصود أن المبتدعة على تنوع مشاربهم وتباين أصولهم ومناهجهم يروج عندهم تكفير مخالفيهم عند أدنى مخالفة.
في حين يتحرج أهل السنة والجماعة من تكفير المخالف حرجا شديداً، لأن التكفير حكم شرعي، وهو حق لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهو خطيرٌ في الآثم ديناً وعاقبة، ولذا فهم لا يؤاخذون بلوازم الأقوال في التكفير حتى يكون الكفر صريحاً لا لبس فيه، كما لا يعولون في التكفير على الظنون والأوهام والأهواء، وإنما المُعوَّل عليه عندهم الأمر البواح الذي لهم فيه من الله سلطان وحجة ظاهرة وبرهان.
7-أن أهل السنة الجماعة يفرقون بين الكفر المطلق والكفر المُعيَّن بالكفر الأكبر مطلقاً على غير معنيين، ولهم شروط وضوابط وتورَّع وديانة في إيقاعه على المعينين، فإنهم يرون كفر المعين يقع عليه بنفسه، وأهم هذه الشروط في إيقاع الكفر الأكبر عليه بلوغ الحجة عليه، واندفاع الشبهة عنه، وممن اعتنى بهذه المسألة تفصيلاً أئمة الدعوة النجدية من الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فأبناؤه وتلاميذهم، فإنهم أجلوها وحقَّقُوها تحقيقاً لا تكاد تجده عند غيرهم، ويضيق المقام- في الواقع –عن تتبع كلامهم وجمعه هنا فالحمد لله.
وههنا أمر مهم لابد من التفطن له وهو أن ثمة فرقاً بين مراحل ثلاث في الكفر المخرج عن الملة والموجب للردة، وهي:
1-تعيين أن هذا الجرم من الكفر الأكبر، بالدلائل الشرعية.
2-ثم مرحلة تكفير المعيَّن المواقع لهذا الجرم؛ باجتماع الشروط فيه وانتفاء الموانع عنه، وهو مناط بالقضاة الشرعيين أصالة.
3-ثم مرحلة ثالثة بعدم القطع له بعد الموت بالخلود في النار، مع إجراء أحكام الكفر عليه في أحكام الدنيا، والله أعلم.

* * *

فهرس المحتوى
الموضوع: الصفحة
تقريظات كبار العلماء ... ... ... ... ... ... 3

(1/52)


المقدمة ... ... ... ... 6
المطلب الأول: مقدمة بأهمية المسألة 10
المطلب الثاني: مسألة تعريف الإيمان ومسماه 12
المطلب الثالث: الأصل الجامع للنزاع في المسألة 14
المطلب الرابع: بيان فساد أقوال الطوائف إجمالاً 16
المطلب الخامس: معنى الإيمان لغة 21
المطلب السادس: العلاقة بين الإيمان والإسلام 23
المطلب السابع: زيادة الإيمان ونقصانه 27
- والأدلة عليه من القرآن 28
- والأدلة عليه من السنة 31
- والأدلة عليه من الآثار السلفية 33
- أسباب زيادة الإيمان 35
المطلب الثامن: المخالفون في زيادة الإيمان ونقصانه 36
المطلب التاسع: تحقيق المروي عن مالك وغيره في نقصانه 37
المطلب العاشر: مسألة الإيمان المطلق، ومطلق الإيمان 39
المطلب الحادي عشر: حقيقة الخلاف مع مرجئة الفقهاء 40
المطلب الثاني عشر: الكفر عند أهل السنة ومخالفيهم 43
- أهمية الموضوع 44
- الكفر ومعناه 47
- قواعد مهمة في أنواع الكفر 50
فهرس المحتوى 57

(1/53)


 

Twitter

Facebook

Youtube