أثر العقيدة الإسلامية في تضامن ووحدة الأمة الإسلامية

الكتاب: أثر العقيدة الإسلامية في تضامن ووحدة الأمة الإسلامية
المؤلف: أحمد بن سعد حمدان الغامدي
الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
الطبعة: السنة السادسة عشرة، العدد الواحد والستون - محرم- صفر- ربيع الأول 1404هـ/1984م
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

مدخل
...
أثر العقيدَة الإسلاميَّةِ في تضامُنِ وَوَحْدَة الأمَّةِ الإسلاميَّةِ
الدكتور أحمد سعد الغامدي أستاذ مساعد بكيلة الدعوة وأصول الدين
الحمد لله رب العالمين والصلاة على رسوله الأمين وبعد:
فإن إحساس الأمة المسلمة بحاجتها إلى اللقاء ... وإلى التعاون ... إحساس منطقي وواقعي ... ذلك لأنها قد أضرت بها الخلافات ... وأنهكتها النزاعات ... والتي كانت سبباً لضعفها وضياع حقوقها في عصر لم يعد يسمع فيه لصوت الضعفاء ولا لأنين الجرحى.
قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} .
فارتفاع الأصوات المسلمة من هنا وهناك تنادي بضرورة وحدة الأمة واجتماع كلمتها. أصوات صادقة ينبغي أن تتجاوب لها الأقطار الإسلامية لتنقذ نفسها وتحمي حقها.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} .
ولكنه لابد للأمة المسلمة- وهى تلم شعثها وتوحد صفوفها- لابد لها من إدراك صحيح للأسباب التي كانت وراء هذا الواقع وللأسس التي ينبغي عليها والوسائل التي يمكن أن تتحقق بها تلك الأسس. وذلك لئلا تنتقل من واقع منحرف إلى واقع آخر منحرف.
وإن المؤتمر العالمي الثاني لتوجيه الدعوة والدعاة. الذي ستعقده الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في شهر ربيع الأول لهذا العام 1404 هـ والذي سيكون موضوعه "سبيل الدعوة الإسلامية إلى تحقيق التضامن الإسلامي ووحدة المسلمين". لهو استجابة موفقة لمدارسة السبل التي تؤدي إلى وحدة الأمة.
وهذا بحث موجز بعنوان "أثر العقيدة الإسلامية في تضامن المسلمين ووحدة الأمة الإسلامية". أحببت أن أشارك به في هذا المؤتمر راجياً من الله أن ينفع به.
ويتضمن هذا البحث أربعة أقسام تحت كل قسم منها عدة قضايا شارحة له ثم ألحقت بها خاتمة موجزة بينت فيها أهم ما اشتمل عليه هذا البحث.

(1/98)


أقسام البحث:
القسم الأول: واقع الأمة الإسلامية:
أولاً: في العقيدة.
ثانياً: في العبادة.
ثالثاً: في الشريعة.
القسم الثاني: أسباب هذا الواقع:
أولاً: الجهل بدين الله.
ثانياً: تمزيق الاستعمار لبلدان المسلمين.
ثالثاً: الغزو الفكري.
القسم الثالث: أسس وحدة الأمة الإسلامية:
أولاً: وحدة العقيدة.
ثانياً: وحدة الغاية.
ثالثاً: وحدة القيادة.
رابعاً: وحدة المنهج.
القسم الرابع: وسائل تحقيق أسس الوحدة:
أولاً: التعليم الموجه.
ثانياً: الإعلام الملتزم.
ثالثاً: الاقتصاد المستقل.
رابعاً: إيجاد مراكز علمية.
الخاتمة.
وأخيرا أسأل الله عز وجل أن يهيء أسباب الوحدة الصحيحة وأن يجمع كلمة الأمة على الحق إنه سميع مجيب.

(1/99)


القسم الأول: واقع الأمة الإسلامية
أولا: في العقيدة
...
القسم الأول: واقع الأمة الإسلامية:
واقع الأمة الإسلامية واقع مكشوف لا يكاد يجهله أحد. فقد تعرض لأمراض متعددة

(1/99)


وانحرافات متنوعة بحيث لا يكاد يسلم منه شيء ... لا في العقيدة ... ولا في العبادة ... ولا في الشريعة ... وسنحاول هنا الإشارة إلى ذلك الواقع بشيء من الإيجاز:
أولاً: في العقيدة:
إن أخطر الانحرافات التي تعرضت لها الأمة المسلمة هي الانحرافات في العقيدة ولا نستطيع هنا استيعابها وتفصيلها ولكننا سنكتفي بالتنبيه على بعضها.
(1) انحرافات إلحادية: هدف أصحابها استبدال المبادئ الكافرة بعقيدة الإسلام ... وهم طوائف متعددة: منهم من يعلن عقيدته الإلحادية ويظهر كفره بالله ورسله واليوم الآخر ومنهم من يخفي ذلك وراء شعارات ظاهرها الدعوة إلى الإصلاح وباطنها الكفر والإلحاد.
(2) انحرافات طائفية: تتمثل في طوائف مستقلة- كالقاديانية والبهائية ونحوها من الطوائف التي خرجت على عقيدة الإسلام بدعوى النبوة لزعمائها ونزول الوحي عليهم وهي تتستر في كثير من البلدان باسم الإسلام وهي خارجة عليه لمخالفتها لعقيدة ختم النبوة التي هي جزء من عقيدة المسلمين.
(3) انحرافات طائفية قديمة: لازالت قوية ونشطة في دعواتها رغم انحرافها وفساد معتقداتها ومن تلك الطوائف.
طائفتا الشيعة والصوفية:
فالأولى تقوم على عقيدة تخالف عقيدة الإسلام التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك إسباغ صفات الألوهية على أئمتهم وادعاؤهم أنهم يعلمون الغيب ثم تدعي كذلك أنهم يتلقون الوحي من السماء وفي كلا الأمرين إساءة إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم. وأخيراً فإنها تقع في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتهمهم بالخيانة والردة.
وهذا جميعه ينتهي إلى إلغاء الإسلام الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالأئمة يعلمون الغيب وإذا أراد الله عز وجل أن يحدث أمراً استشارهم - كما في أصول الكافي لهم- وهذا إساءة إلى الله.
والأئمة يوحى إليهم مع العلم أن رسوله الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بانقطاع الوحي ... وهذا يصادم خبره ...

(1/100)


والصحابة قد خانوا في دين الله ... فالإسلام الذي نقلوه غير موثوق فيه ... وبهذا فالإسلام غير موثوق به ...
إذن فليعد الناس إلى المجوسية الفارسية ... وهذا هو المطلوب للحركة الشيعية.
وأما الصوفية فقد ابتدعت تقديس الأفراد ودعوى رفع التكاليف عن بعض الناس كما أعادت إلى الأذهان تلك الطقوس الكنسية التي أفسدت الدين النصراني حيث اتخذت من البشر وسائط عند الله بها تقضى الحاجات وتغفر الزلات إلى عشرات أخرى من الانحرافات.
كما أنها تدعي الاستقلال في معرفة الشريعة إذ أن الأولياء يأخذون حاجتهم من اللوح المحفوظ مباشرة وهذا كلام يخرج صاحبه من الإسلام.
وقد كان التصوف من الأسباب المباشرة بظهور الشرك في الأمة بتقديس الأموات وطلب حاجاتهم منهم واتخاذ قبورهم مزارات وأماكن للعبادة وزاحم تعظيم الأموات توحيد الله عز وجل في القلوب. فكثرت الأضرحة وتعددت الفرق والأحزاب لكل حزب ضريح به يستغيثون وعنده ينيخون وإليه عند نزول الحوادث يلجأون.
انحرافات في الجانب النظري: "العلمي" من العقيدة وهو ما يتعلق بأسماء الله وصفاته وأفعاله فقد وجدت الإتجاهات المنحرفة التي تتنكر لهذا الجانب أو لبعضه فأولت الآيات القرآنية والأحاديث المتواترة وردّت الأحاديث الأخرى والتي تعرف الناس بربهم عز وجل وأنه عليم حكيم سميع بصير يقول ما يريد ويفعل ما يشاء يأمر وينهى وأنه استوى على عرشه استوأً يليق بجلاله وعظمته.
فكان من ثمرات ذلك الرد والتأويل أنها حالت بين الناس ومعرفة ربهم فانتهى بهم هذا إلى الإلحاد والتعطيل.
وقد أتى القوم من ضلال عقولهم القاصرة وظنهم أن إثبات تلك الصفات الواردة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يقتضي التشبيه بالمخلوق.
وهذا إساءة إلى الله ورسوله حيث أن في هذا الكلام اتهام لله ورسوله بالعجز عن البيان ... لأنهم لم يفهموا من تلك الآيات والأحاديث إلا التشبيه ... والله عز وجل يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وقد فروا من تشبيه إلى تشبيه.
فإنكار كلام الله عز وجل لئلا يشبه الإنسان المتكلم- كما زعموا- تشبيه لله عز وجل

(1/101)


بالجماد فلم يسلموا من التشبيه على مذهبهم.
ولكن الاعتقاد الصحيح إثبات ما أثبته الله عز وجل وأثبته رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلاله.

(1/102)


ثانيا: في العبادة:
لم تسلم العبادات- كذلك- من الشوائب حيث تعرضت لأنواع متعددة من الإنحرافات والبدع نورد طرفاً منها.
(1) الغلو المفرط في أدائها والذي كان يمثله فيما سبق طائفتا الخوارج والصوفية حيث كان لكل منهما غلو مفرط في جانب أو جوانب من الإسلام.
فالخوارج كانوا يصومون النهار ويقومون الليل حتى أصبحت أجسادهم شاحبة نحيلة من طول القيام وشدة الجوع والعطش.
والصوفية بالغوا في الذكر والزهد حتى كان أحدهم يعيش على الصدقات والهبات ويخلو بنفسه في الزوايا المظلمة ليصل بزعمه إلى درجة اليقين فتسقط عنه التكاليف.
(2) الإهمال المطلق للعبادات والإكتفاء بلفظ الشهادتين وهذا الإنحراف كان من ثمرات الإرجاء الذي لا يعطي للعمل اهتماماً إذ أن الإيمان يثبت عند المرجئة بالقول فقط أو به وبالاعتقاد فقط.
وقد أصبح في الآونة الأخيرة ترك العبادات ظاهرة بارزة في أغلب المجتمعات الإسلامية ولاشك أن هذا لا يتفق مع أصول الدين.
(3) عدم التزام كثير من المسلمين بالأداء الصحيح للعبادات فهو يؤديها بصورة ناقصة أو محرفة وهو لا يشعر بذلك وقد يظن أنه يؤديها بالصورة الصحيحة فكان من نتائج ذلك حرمانهم من لذة العبادة وثمراتها.

(1/102)


ثالثاً: في الشريعة
لم تقتصر الانحرافات على الجانبين السابقين بل شملت- كذلك- الشريعة حيث تعرضت في الآونة الأخيرة التي تمزقت فيها الأمة وتحطمت فيها الخلافة الإسلامية- تعرضت إلى انحراف وفساد بل إلى حرب وعداء في كثير من البلدان الإسلامية نذكر طرفاً من ذلك:

(1/102)


(1) محاربة الشريعة واستبدال القوانين الوضعية بها وذلك من آثار الاستعمار العسكري والفكري الذي مزق الأمة وأفسد عقليتها بحضارته وصناعته وكفره وجحوده ... فوجد في المسلمين من يتحمس لتلك القوانين ويتبنى ذلك الكفر والضلال. هذا إلى جانب ما خلفه الاستعمار في بلدان المسلمين من أنظمة كافرة لازالت تسيطر على كثير منها إلى اليوم بعد أن كانت تحكمها الشريعة الإسلامية.
(2) محاولة التوفيق بين الشريعة الإسلامية والأنظمة الوضعية فيؤخذ من الشريعة الإسلامية ما يتعلق بالأمور الشخصية وبعض الجوانب الأخرى ثم تكمل من القوانين الوضعية.
وهذا وإن كان أصحابه أخف من المتقدمين ولكنه كذلك طعن في الشريعة الإسلامية واعتقاد نقصها وحاجتها إلى أنظمة أخرى مشاركة.
هذا عرض مجمل لواقع المسلمين الذي قد أصيب في كل من جوانبه مما كان له أسوأ الأثر على وحدة الأمة واجتماع كلمتها ... فقد أصيبت في عقائدها ... وعباداتها ... وشريعتها ... وما لم يصحح هذا الواقع على ضوء الكتاب والسنة فلن تقوم للأمة قائمة ولن تجتمع لها كلمة ...

(1/103)


القسم الثاني: أسباب هذا الواقع
جهل الأمة بدينها
...
القسم الثاني: أسباب هذا الواقع:
لقد كانت هناك أسباب متعددة وراء ذلك الواقع نذكر طرفاً منها- أو أهمها- وهي:
أولاً: جهل الأمة بدينها:
إذ لولا الجهل بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لما وجدت تلك الضلالات طريقاً إلى المسلمين لا في عقيدتهم ولا في عبادتهم ولا في شريعتهم فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله "1. فلو لم تصاب الأمة بداء الجهل بهما لما وصلت إلى حيث ما وصلت إليه.
ونحن نلمس أصابع الغزو الاستعماري في مناهج التعليم في كثير من بلدان المسلمين والتي قد خلت أو قلصت منها المواد الدينية حتى أن المتخرج من تلك المدارس لا يكاد يحسن
__________
1 رواه مالك في الموطأ في القدر رقم (3) باب النهي عن القول بالقدر. والحاكم (93:1) عن ابن عباس وعن أبي هريرة.

(1/103)


فهم دينه ... بل لا يفهم من دينه إلا أنه مجموعة من العبادات المحددة فقط.
وهذا الجهل هو الذي يمهد الطريق لكل وارد غريب يتسلل إلى البلدان الإسلامية.

(1/104)


ثانياً: تمزيق الاستعمار لبلدان المسلمين:
كانت الأمة الإسلامية أمة واحدة تستظل براية واحدة وتخضع لقيادة واحدة فكانت ذات شوكة ومنعة ثم لم تلبث أن سرت فيها أمراض فتاكة خلخلت بناءها وأفسدت أبناءها فضعفت قوتها وذلت عزتها فسهل على أعدائها القضاء عليها وتمزيقها إلى دويلات وإمارات واستولت على كثير منها فترات طويلة ثم خرجت منها مخلفة وراءها آثارها الاستعمارية التي لا تزال إلى اليوم.
وقد ركز الاستعمار أثناء وجوده على إحياء القوميات الجاهلية التي كانت عليها قبل الإسلام فاستجاب لها بعض المسلمين فحملوا لواءها ودعوا إليها فكان من ثمار ذلك تعميق الاختلاف وإضعاف الروابط بين أفراد الأمة.

(1/104)


ثالثاً: الغزو الفكري المنظم:
هناك عدة جبهات اشتركت في غزو البلدان الإسلامية أهمها ثلاث جبهات:
أولاها: الصليبية الحاقدة والتي قد دخلت البلاد الإسلامية مستعمرة مخربة وبقيت فيها فترة طويلة تحارب الإسلام بشتى الوسائل وتبشر بالنصرانية ثم رحلت مخلفة وراءها بقايا الفساد بعد أن ربّت جيلاً يرعى ذلك الفساد وينشره ولا زالت جيوش الغزو الصليببي تعيث في الأرض فساداً.
والجبهة الثانية: هي " اليهودية" الآثمة التي يتمثل دورها في تصنيع المذاهب المنحرفة والأفكار المضلة وتصديرها إلى بلدان المسلمين.
والجبهة الثالثة: هي " الشيوعية الملحدة" والتي هي من ثمرات اليهودية وقد أصبح لها كيان ودولة وهي تنشر أفكارها وإلحادها بشتى الوسائل ابتداءً بالدعوة السلمية وانتهاءً بقوة الحديد والنار.
وقد أصبح لها في بلاد المسلمين أتباع وأنصار يفرقون الأمة ويمزقون وحدتها.
فهذه الجبهات الثلاث قد اشتركت في غزو المسلمين ومحاربة دينهم وتمزيق صفوفهم

(1/104)


فانقسمت الأمة الإسلامية وتعدد ولاؤها بحسب الجبهة التي تقودها وتسير على خطاها ولا يكاد يسلم من الأمة أحداً إلا من رحم ربك وقليل ما هم.

(1/105)


القسم الثالث: أسس الوحدة الإسلامية
أولا: وحدة الغاية
...
القسم الثالث: أسس الوحدة الإسلامية:
إن الأمة الإسلامية تملك أسساً مشتركة تستطيع بها أن تجمع شتاتها وتوحد كلمتها ... فهي أمة واحدة ... ذات دين واحد ... وكتاب واحد ... ورسول واحد ... هذه هي الأصول الثابتة التي تشترك فيها الأمة. فإذا ما أدركتها جيداً والتزمت بمقتضياتها فإن ذلك يجعل منهم أمة واحدة تلتقي على:
وحدة الغاية.
وحدة العقيدة.
وحدة القيادة.
وحدة المنهج.
فهذه الأسس التي تجتمع عليها الأمة وتكون عليها الوحدة الإسلامية الشاملة ... وأي خلل أو نقص فيها فإن ذلك يؤدي إلى استمرار الواقع المؤلم ... واقع التفرق والتمزق. وفيما يلي نبين بإيجاز تلك الأسس.
أولاً: وحدة الغاية:
إن لهذا الإنسان الذي يعيش على ظهر هذه الأرض "غاية" يؤديها في وجوده فإذا عرفها وتمثلها في حياته فإنه يسعد في الدنيا والآخرة وإذا جهلها وأعرض عنها فإنه يشقى في الدنيا والآخرة.
هذه الغاية هي "العبادة" لله عز وجل والقيام بدور الخلافة الصحيح في الأرض كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} . فهذه هي الغاية.
والمسلمون ولله الحمد قد أدركوا هذه الغاية التي حرمها كثير من الشعوب فضلوا وشقوا وذلك ظاهر لكل متأمل في أحوالهم وشئونهم وإن ملكوا وسائل الإنتاج واكتشفوا كثيراً من قوانين المادة فإن ذلك لم يخفف من وطأة الشقاء النفسي لتلك المجتمعات.
ولكن المسلمين رغم إدراكهم لهذه الحقيقة فإنهم قد فرطوا فيها وأعرضوا عن تحقيقها فكان ذلك سبباً في شقائهم وضعفهم وتسلط عدوهم عليهم.
فلابد من العودة الصادقة إلى تحقيق هذه الغاية والالتزام بمقتضياتها لنحقق لأنفسنا السعادة في الدنيا والآخرة.

(1/105)


وتحقيق هذه الغاية "العبودية لله عز وجل" سيكون سبباً من أسباب الوحدة للأمة فإنه إذا توحدت غايات الشعوب المسلمة وغايات القيادات المسلمة فإنه ولاشك ستتحد الآمال والأهداف التي تجمع الأمة.
ولكنه إذا تعددت الغايات وكان لكل بلد من البلدان الإسلامية غاية أو غايات أخرى كلها من صنع البشر ... فارتبطت بشهواتها وأطماعها العاجلة فإن ذلك لا يقطعها عن العالم الإسلامي فحسب بل يقطع صلتها بالله عز وجل وانتسابها إلى الإسلام ... لأن الإسلام يحدد للإنسان غايته في هذه الحياة فإن التزمها الإنسان في حياته صحت نسبته إلى الإسلام وإن أعرض عنها فقد قطع صلته بهذا الدين.
ولو لم تضعف هذه الحقيقة في نفوس المسلمين لما حدثت الانقسامات بينهم ولما استطاع أعداء الإسلام أن يجدوا رواجاً لأفكارهم الضالة في بلدان المسلمين لأن الإسلام نور وغيره ظلام ومن كان في النور فإنه لا يرضى بالظلام بديلا قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} .

(1/106)


ثانياً: وحدة العقيدة:
لقد تعرضت العقيدة الإسلامية في كثير من البلدان الإسلامية وعلى مدار التاريخ إلى انحرافات خطيرة وتصورات خاطئة شوهت جمال العقيدة وأوجدت في الأمة الواحدة مذاهب متعددة وطوائف متفرقة لكل منها أتباع وأنصار ... وما ذلك إلا لانتشار الجهل في صفوفهم.
لهذا فإنه لابد من إعادة النظر في ذلك الانحراف وتصحيحه بما يوافق الكتاب والسنة وتجريد العقيدة من الآراء البشرية التي لحقت بها ليتيسر للأمة الاجتماع واللقاء.
فإن العقيدة هي الأساس الذي يرتفع عليه بناء الدين فإذا قوى الأساس وخلص من الانحراف سهل على الأمر تصحيح بقية الانحرافات الأخرى وأمكن لها الاجتماع واللقاء ... وإلا فلا اجتماع ولا لقاء.
فالله عز وجل هو رب العالمين ومدبر الكون ومالكه وما عداه مخلوق مربوب محتاج فقير.

(1/106)


والله هو وحده المستحق للعبادة لا رب غيره ولا إله، وغيره عبد ذليل.
ولله عز وجل الأسماء الحسنى والصفات العليا لا نحرف ولا نعطل ولا نشبه ولا نمثل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . ولا ننسى بقية أركان الإيمان من الإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
هذا مجمل عقائد الإسلام فإذا ما رسخت هذه الحقيقة في نفوس الأمة وأصبحت واضحة في القلوب بلا غش ولا خفاء أمكن للأمة أن تلتقي وتتحد ... إذ صفاء الاعتقاد وسلامته من الآراء الدخيلة عليه يعني إزالة الحواجز التي قامت بين الأمة وفرقتها إلى شيع وأحزاب.

(1/107)


ثالثاً: وحدة القيادة:
لقد شاء الله عز وجل أن يكون الإسلام آخر الرسالات السماوية إلى الأرض ... وأن يكون محمد صلى الله عليه وسلم آخر الرسل فيه أكمل الله الدين وبه ختم المرسلين فلا دين بعد دينه ولا نبي بعده.
فالإسلام هو الدين الذي رضيه الله لنا ديناً نتعبده به ونلتزم بشريعته.
والرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو القائد الذي يجب أن نسير خلفه ونقتفي أثره.
وكل قيادة أخرى تحاول أن تلغي هذه القيادة أو تقلل منها فإنها قيادة خارجة عن الإسلام محاربة له ... بل كل قيادة تتمرد هي في ذات نفسها عن هذه القيادة أو تنحرف عن متابعتها فهي قيادة منحرفة.
هذه حقيقة ينبغي أن تتضح في أذهان المسلمين إذ بقدر وضوحها والتزامهم بها بقدر ما يتيسر للأمة الاجتماع والاتحاد ... وبقدر جهلها أو تجاهلها بقدر ما تبتعد الشقة ويتعذر اللقاء.
فإن إدراك الأمة لهذه الحقيقة يعني "توحيد القيادة" فالجميع يلتقون على قيادة واحدة بها يتأسون وعلى خطاها يسيرون فمنها يتلقون التوجيهات ومنها يعرفون الأحكام والعبادات ... فالحلال ما أخبر بحله والحرام ما نهى عنه ... والخير ما دل عليه ... والشر ما حذر منه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .
فليس هناك قيادة أخرى لها هذا الحق ولا بعضه وإنما تأتي لها الحقوق بمقدار متابعتها لهذه القيادة.

(1/107)


رابعاً: وحدة المنهج:
من الأسباب الرئيسة لتمزيق الأمة الإسلامية تعدد المناهج التي تتبعها في مجتمعاتها ... تلك المناهج التي لا صلة لها بها ولا علاقة لها بدينها ... بل هي مضادة لدينها محاربة لعقيدتها ... فكان من نتائج ذلك أن اختلفت الأمة وتعددت مناهجها ... فوقعت الفجوة بين المناهج والواقع ... وبين القيادات والشعوب ... بل بين القيادات نفسها ... فانعكست تلك الخلافات على الأمة الإسلامية.
وما لم يتحد المنهج للأمة الإسلامية فيكون منهجها واحداً كما يقتضيه دينها فإن كل محاولة لوحدة الأمة أو لجمع شتاتها فإنها محاولة خاسرة.
وهذا المنهج الذي يجب اتباعه ليس له إلا مصدر واحد وهو الله سبحانه وتعالى فهو الذي يضعه لخلقه ويحدده والبشر عبيده وخلقه لا يجوز لهم أن يختاروا أو يرفضوا وإلا فإن ذلك يعرضهم لمقته وسخطه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم} .
هذا هو حال المسلم مع شريعة ربه ومنهاجه، فإذا اتضحت هذه الحقيقة في أذهان المسلمين تمثلوها في واقعهم فإنه يتيسر لهم اللقاء والاتحاد.

(1/108)


القسم الرابع: وسائل تحقيق الوحدة
أولا: التعليم الموجه
...
القسم الرابع: وسائل تحقيق الوحدة:
عرضنا في المبحث السابق الأسس التي لابد منها لتوحيد الأمة الإسلامية وهي وإن كانت شرطاً في تحقيق إيمان المسلم فلا يكون مسلماً بدونها ... فإنها شرط في تحقيق وحدة الأمة واجتماع كلمتها.
ولكن هذه الأسس- كما رأينا من قبل- قد تعرضت للفساد والانحراف واختفت أو تشوهت في كثير من المجتمعات الإسلامية فكان لابد من إظهار ما اختفى منها وتصحيح ما تشوه.
وهذا أمر يحتاج إلى وسائل متعددة للقيام بذلك الدور ورعايته في المجتمعات الإسلامية. ومن تلك الوسائل ما يأتي:
التعليم الموجه:
فإن المؤسسات التعليمية من أهم الوسائل الموجهة في المجتمع ... وكثيراً ما ينعكس أثرها على المجتمع ... سواء كان ذلك الأثر خيراً أم شراً.

(1/108)


والمدرسة هي منهج ومعلم ... فإذا صلحا صلحت الأجيال وإذا فسدا فسدت الأجيال- إذا شاء الله ذلك.
لذا فإنه لابد من إعادة صياغة المناهج في مدارس المسلمين وجامعاتهم بحيث يراعى في وضعها تلك الأسس التي تمثل قاعدة الوحدة الإسلامية فتشتمل المناهج على بيان العقيدة والغاية والقيادة والمنهج وتعمق هذه المعاني في نفوس أبناء الأمة ويبين لهم أن هذه أسس الإيمان التي يكون بها الإنسان مسلماً ... ويكون بها المجتمع جزءً من الأمة الإسلامية.
وبهذا تتهيأ للمسلمين أسباب الاجتماع والاتحاد.
وإلى جانب هذا البناء الإيماني للفرد المسلم يبين كذلك فساد المذاهب البشرية التي تسود كثيراً من المجتمعات البشرية اليوم وأنها مذاهب ضالة باطلة لا حق لها في الوجود ولا في البقاء.
كما يبين كذلك انتهاء دور الديانات السماوية الأخرى التي كانت قبل الإسلام وأنها قد نسخت بالإسلام كما أنها قد تعرضت للفساد والتحريف ... فهي لا تمثل الدين الذي أنزله الله عز وجَل.
وهذا: البيان هو بمثابة الصيانة والحماية لتلك الأسس الإسلامية.

(1/109)


ثانياً: الإعلام الملتزم:
لقد أصبح للإعلام في العصر الحاضر- بكل وسائله المسموعة والمرئية والمقروءة- دور خطير في الحياة الإنسانية ... فهو يقتحم كل بيت ويصل إلى كل إنسان.
ووسائل الإعلام اليوم في كثير من البلدان الإسلامية غير ملتزمة بالمنهج الإسلامي الذي يبث الخير وينشر الفضيلة ويحذر من الشر والأَخلاق الرذيلة ... بل إن بعض تلك الوسائل تحارب الإسلام وتسيء إلى أهله بما تنشره من البرامج السيئة والحلقات المنحرفة ... وهذا كله مضاد لدين الأمة ومفرقة لجمعها وهادم لأسس الوحدة التي تقوم عليها.
ولن يكون هناك لقاء أو اتحاد وإعلام المسلمين أو بعضه بهذه الصورة.
فلابد إذن من إعادة البناء الإعلامي بناءً صحيحاً بحيث يكون قادراً على توجيه الأمة وتعميق العقيدة في نفوسها وتذكيرها بخاصيتها في هذه الحياة والمنهج الذي اختاره الله عز

(1/109)


وجل لها كما تبين إلى جانب ذلك وحدة القيادة للأمة الإسلامية وأنه لم يعد هناك مجال لظهور قيادات أخرى تنازع القيادة المحمدية أو تزاحمها.
فإذا استطاع الإعلام في البلدان الإسلامية أن يثبت هذه القضايا الأساسية في نفوس الأمة فإنه عندئذ يكون قد أدى دوره الصحيح في المجتمع وساهم في وحدة الأمة ... وإلا فلا وحدة ولا اجتماع.
ويتحقق ذلك بالاختيار الأمين للعاملين بالإعلام فتختار الكفاءات المؤمنة التي تدرك أهداف الأمة وغايتها.

(1/110)


ثالثاً: الاقتصاد المستقل:
إن التشابك المعقد في العلاقات الدولية - اليوم- واختلاف الأنظمة الاقتصادية في العالم والذي انعكس أثره على أكثر المجتمعات الإسلامية فتعددت فيها الأنظمة الاقتصادية تبعاً للاتجاه الذي يغلب على كل بلد كان له آثَاره السلبية على وحدة الأمة الإسلامية.
ومحاولة عودة الأمة إلى دينها يلزم منه التحرر من تلك الأنظمة الدخيلة على المجتمعات الإسلامية بالعودة إلى النظام الاقتصادي الإسلامي الذي هو جزء من ذلك المنهج الشامل الكامل الذي هو جزء من دين الأمة لا يتم بل لا يوجد بدونه والذي هو أحد الأسس التي تلتقي عليها الأمة.
ولابد من إيجاد اقتصاد إسلامي مستقل ليس مرتبطاً بأي نظام آخر لئلا يبقى بين الأمة فجوات تحول دون وحدتهم.
ويتم ذلك بإيجاد أسواق مشتركة وعملة موحدة وهيئة اقتصادية مشتركة تشرف على ذلك الاقتصاد الإسلامي المستقل.
وبهذا تستقل عن التبعية الاقتصادية الضارة وتقيم لها وحدة اقتصادية قوية على أسس إسلامية ...
والاقتصاد في الحقيقة هو ضمن المنهج الإسلامي الذي يعتبر أحد الأسس للوحدة الإسلامية ... والذي أريده هنا هو التعاون العَام وتوحيد الأسواق والعملات الذي يعطي للأمة شخصيتها المستقلة ويمهد السبيل للوحدة واللقاء.

(1/110)


رابعاً: إيجاد مراكز علمية:
لما كانت هذه الوسائل المتقدم ذكرها لابد لها من إعداد وتخطيط بحيث تظهر بالصورة الصحيحة كان لابد من مراكز علمية مختلفة تكون مهمتها التخطيط الدقيق لتلك الجوانب إلى جوانب أخرى تتعلق بحياة الأمة.
فتلك المراكز متعددة الأغراض تمثل الهيئة الاستشارية والمخططة لتوحيد الأمة وتكاملها ونموها في جميع الجوانب بحيث تتحد الأمة في كل المظاهر إلى جانب اتحادها في القواعد.

(1/111)


الخاتمة:
في نهاية هذا البحث الموجز نذكر أهم القضايا التي اشتمل عليها هذا البحث وهي:
إن واقع الأمة واقع مؤلم قد تخلله الفساد وسرى فيه الانحراف.
وأن هذا الواقع المنحرف لا يمكن معه اللقاء والاتحاد.
وأن وحدة الأمة لا تتم إلا بتصحيح هذا الواقع على ضوء الكتاب والسنة.
والله وحده عز وجل هو المسؤول أن يصلح الأمة الإسلامية وأن يجمع كلمتها على الحق إنه سميع مجيب ...

(1/111)


 

Twitter

Facebook

Youtube